top of page
  • محمد حداد

شكوى الحسن تفضح موهبته

mohammed alhasan

يذهب بالموسيقى الى منتهاها.. يؤجل كل احتمالات المستقبل كي يؤلف نغمة ترضيه، ثم يدعي بأنها لم تأت بعد.. صداقتي به لم تستثنيني من الإنبهار بما يكتب من موسيقى، ففي كل مرة يفاجئني بذهابه الى منطقة جديدة في التأليف الموسيقي غير متوقعة ابداً.. فبدأ بتأليف الموسيقى التي تنتهج العصر الحديث ثم انتقل الى الموسيقى الدرامية التي تألق فيها وتألقت به، ثم سمعته يكتب عملاً يذهب الى موسيقى العالم وأطلق عليه (ساحة المعركة)، بعد ذلك رأيته يكتب مايسمى (الجنغل) أو الثيمة الرئيسية لمشروع تاء الشباب وهذه مدرسة مختلفة تماماً عما سبق، وإذا به يقوم بتلحين بعض النصوص المقدسة لديانات كثيرة فقط كي يثبت لنفسه أنه جدير بكل هذا المخزون الموسيقي الذي يتدفق منه.. ذهب الى الأغنية بأشكالها المختلفة ولغاتها أيضاً!! ولا يتعب من البحث والإصغاء الى كل ما يصدر نغمة في هذا الكوكب.


لا أعتقد بأنني استطيع أن اعرف محمد الحسن بطريقة تقليدية، فمن خلال موسيقاه سيكون الكلام عنه أكثر وضوحاً وسحراً في وصف ما يدور في ذهنه الذي لايهدأ.. في هذا المقال سأحاول أن أكتب بخجل إنطباعي عن عمله (شكوى الجراح) الذي قام بتلحين كلماته التي كتبها الدكتور خليفة بن عربي، وتواطئ معهم الصوت المشحون بالعذوبة وصديق الجنون كما يطيب لي أن أسميه يوسف الجابري. انطباعي سيكون بشكل مختصر ولكن فيه كثير من الاحترام لأن الحسن وأصدقاء تجربته يستحقون ذلك، لندخل في التفاصيل ..


المقدمة الموسيقية بوقفاتها المتتالية كانت موفقة فهي تعطي دلالات على التردد الذي يكون فيه الشخص وهو يبحث عن النبرة المناسبة قبل البوح بمكنوناته الحميمة، ويظهر هذا التردد في آلة البيانو والجيتار.. ثم نصغي الى آهات المغني الخجولة مع نغمات الناي الذي يحوي خامة شبيهة بالنحيب والرجاء المكبوت، يصحبهما تساقط قطرات من االنغمات العالية للبيانو، وكأن الشخص يقف في العراء تحت مطر الرحمة كي يبدأ سرد قصته. ثم في مباغتة آلة التشيللو للحالة وكأنها تنهي هذه الحالة المرتبكة وتدفع الشخص الى البدء في الكلام عما بداخله من مشاعر حيث تقفل الجملة بحسم تنصاع له الآلات الأخرى.


اللحن ذكي جداً.. لأن فيه طابع الإبتهال لكن مغلف بتلوين التوزيع الغربي الذي أعطى نكهة جديدة ومعاصرة، مع اعتقادي بأن تدفق اللحن بشكل عام متسارع أكثر مما ينبغي، لكن يظل هذا في منطقة الذوق حيث أنه لا يوجد خطأً في هذا التدفق اللحني، والبعض ممكن أن يؤوله للحالة المرتبكة لموضوع النص!!

هناك اربع حالات تميز هذا العمل بالنسبة لي..


الحالة الأولى هي صرخة المغني وهو يصف تمرد الناي!!!! قمة الاحتراف في ترجمة الملحن للكلمة بمضمونها والتمرد على قيد القوافي المتتالية في القصيدة الكلاسيكية.. وبصرخته تدخل تآلفات الجيتار لتؤكد الفكرة العنيفة للتمرد، حيث يظهر في هذه المنطقة من العمل تأثر الحسن بالألحان الهندية التي تؤدى في الأعمال الدرامية حيث تكون مشحونة بالمشاعر والجرأة في تقاذف الكلمات بكل حرية بدون الرضوخ لأسوار النص الشعري. مع أن الناي لم يأخذ فرصته الكاملة للتمرد في هذا المقطع حيث كان يمشي بشكل موازي لصوت الجابري، في الوقت الذي كنت أتمنى أن يتصاعد صوت الناي ليحلق تأكيداً لما يقوله المغني.


الحالة الثانية هي في الصمت المحيط بالمغني ليمهد له كي يعبر عن ارهاقه من الذنب والعناء حيث يبدأ اللحن يتكسر ويتباطئ في منطقة قاتمة حيث جملة (يا رب أرهقني العناء) تدخل بنغمات مؤثرة جداً مقارنة بالمقام الأصلي للعمل، فيها الموروث المقامي اليمني والحجازي، وهذه المناطق فيها تبدأ التوبة والأسئلة الكونية.


حتى الوصول للحالة الثالثة فالملحن هنا ترجم جملة (وبغاب روحي عربدا) ترجمة موسيقية فأدخل نغمة بعيدة عن نسق اللحن مع كلمة (عربدا) وهي رؤيته الخاصة لعربدة النغمات التي خرجت عن المقام الأصلي وهذا بمثابة تفسير لحني لمضمون العربدة وهي الخروج عن التقاليد بالفعل الناشز، والمد في الكلمة نفسها يتأرجح بين لذة وألم!! وهذا هو شعور المؤمن عندما يقترف الذنب.. لا يكون منسجماً بشكل كامل مع ما يفعل.. وآلة الفيولا هنا ترجمت هذه الحيرة بجملتها المرتبكة أيضاً..


أما الحالة الرابعة فهي دخول الكورس الرجالي مع الجيتار عندما بدأ الشخص في سرد آيات ودلائل عظمة الخالق التي تبين كم هو ضئيل بين الجبال والنهر والقمر، حيث يطلب من الرب ان يمد له اليدا.. دخول الكورس هنا يمنحنا الشعور بهذا الكون الكبير الذي لايمكن حصره، الى ان ننتهي بهذا الطلب الذي نطلبه في كل ضعف وعادة نسأله بين خطيئتين، ولرحابة هذا الكون وضئالة الشخص فإن الجواب ليس مؤكداً دائماً!!!


هذه الشكوى فضحت لنا موهبة في التلحين تكاد تجيب على كل الأسئلة التي تبحث عن الرب..

شكراً محمد الحسن على هذا الإبداع الذي منحتنا أياه.




RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page