top of page
  • محمد حداد

ياسر عبد الرحمن .. يفتح الجرح بموسيقاه

بقلم : محمد حداد


المستفز في ذهابي للإستماع لموسيقى هذا الفيلم هو أنني حصلت عليها مرتين ومن صديقين لا يعرفان بعضهما، الأول جراح يعشق النور والطب، وقد أهداني الإسطوانة بعد عودته من مؤتمر طبي في مصر، والصديق الآخر، يعشق السينما ويربكني بحبه الذي ليس له تفسير في الكتب، أهداني الموسيقى على هيئة (mp3)، مما أتاح لي فرصة الإستماع لموسيقى الفيلم بأكثر من طريقة، ومع أنني لم أشاهد الفيلم حتى الآن، لكن تركت الموسيقى في نفسي إحساساً بأن الفيلم يجب أن يليق بموسيقى كهذه.


في تجربة مختلفة ومدهشة يذهب بنا الفنان ياسر عبد الرحمن بموسيقى فيلمه (ليلة البيبي دول) الذي أخرجه عادل أديب.. وبكتابته المؤثرة التي تعكس إحترافه اللامتناهي في التعامل مع الجمل اللحنية التي يؤلفها، أو التي يأخذها من التراث ويطورها لتتوافق مع ذائقته النادرة. يكتب ياسر موسيقاه للوتريات وكأنه يوقظ آلات الكمان التي بداخله جميعها لتعزف اللحن، فاحترافه العزف على آلة الكمان جعله ينظر للوتريات بمنظور مغاير عن المؤلفين الذين لا يعزفون هذه الآلة، فياسر هنا ينجح في إقناع الأوركسترا الوتري بأنها قادرة على عزف كل ما يكتب، ثم ان (مصرية) جمله اللحنية القادمة من طينة الغيط، وريف الأراغيل، أضاءت لنا جزءاً من شخصيته الموسيقية، أما الجزء الآخر والذي لا يقل أهمية عما سبق، فهو ثقافته الموسيقية التي صقلها بدراسة فنون العزف على آلة الكمان، واكتشافه لمكنونات هذه الآلة الغربية ومدارسها المختلفة، مما ساهم في قدرته النادرة على كتابة ألحان مختلفة وجديدة، فيها عبق الشرق، لكنها محروسة بنواميس الغرب، فيخرج مزيجاً يأخذنا في السكرة الأخرى.


في فيلم (ليلة البيبي دول) استطاع عبد الرحمن أن يستحضر المخزون الإنساني للموروث الشعبي عند قطاع كبير من الإنسان العربي، ومزج هذه الرؤى الحميمة في قالب اقترحه على طريقته، وتظهر ذروة ما أقول (بالنسبة لي على الأقل) في معالجته للحن العراقي الفلكلوري (فوق النخل) الذي ينسب للملا عثمان الموصلي، والذي عرفناه بصوت ناظم الغزالي، لحن يحوي قصصاً يطول سردها، ويختلف فيها المفسرون، حيث أن في النص من التورية ما كثر تأويله، وعندما يأتي ياسر عبد الرحمن برؤيته الممزوجة (بالكونتربوينت) والصعيد الجواني، فإنه يقلب التاريخ، ويطهر الجرح بدمع جديد، فيظهر اللحن في حلّته المبهرة، مصقولاً بالمزاهر والدفوف، ويلبس اللحن نحاس النفخ مما يزيده نبلاً لحنياً، والوتريات الغليضة في لحنها المضاد (الكونتربوينت) تفتح النوافذ لحرية الموسيقى العربية، التي طالما كانت حبيسة (تابوات وطواطم) العقول المخضرمة التي ترى في التراث نصاً مقدساً لا يمكن تحريفه، فلحن مثل (فوق النخل) جدير بمكتشف مثل ياسر عبد الرحمن، كي يضع المرايا في وجه الشمس لتفضح خوفنا من الدخول في تراثنا الجميل، فتراثنا مرهق وقديم، مثل شيخ يسمح لك بأن تجلسه على أي أريكة مادامت لا تؤذي ظهره وأطرافه… هكذا التراث، شيخ لا يهمه لون الثياب التي ألبستها إياه، مادامت تدفئه، وتلا تهينه… هكذا التراث. ياسر يذهب الى كل ذلك بثقة غير مكترث بما يقولون.. لكنهم سوف يقولون.


وفي المقطوعة الموسيقية التي حملت عنوان (11 سبتمبر) تظهر براعة هذا المؤلف الموسيقي في الكتابة الدرامية، والتي انتبه لها عبد الرحمن مبكراً، فقد تميز حسه الدرامي في مؤلفاته المبكرة، سواء في المسلسلات أو الأفلام، مما جعله متفرداً في هذا الحقل.. وفي هذه المقطوعة يظهر التعقيد البوليفوني (متعدد الأصوات) واضحاً سواء في الألحان المتدفقة معاً أو في الألحان المضادة، أو حتى في التلوين بين الخامات الصوتية، حيث أضفت الصوتيات البشرية الرجالية والنسائية لمسة مؤثرة، وقد برعت فرقة كورال باريس السيمفوني بقيادة فينسنت ليكورنيه في أداء الصوتيات المتصاعدة بمصاحبة الوتريات والنحاس، في جملة لحنية غريبة على الموسيقى العربية الدرامية، مما تعكس رؤيه غربية تتوافق مع موضوع الموسيقى في المشاهد الخاصة بأحداث 11 سبتمبر. فالكتابة الموسيقية في هذه المقطوعة أخذتني لأفلام هوليوود الحربية المليئة بالمطاردات في الأرض والجو، وهذا ذكاء من المؤلف أن يصور هذا الحدث برؤية شبيهة بموسيقى الأفلام الأمريكية!!


أما أغنية الفيلم (ليه؟) التي كتبها الشاعر إبراهيم عبد الفتاح ولحنها ياسر عبد الرحمن أيضاً، وقامت بأداءها روبي.. فقد حملت هذه الأغنية تساؤلات كثيرة عن المزاج البشري والرغبة المستمرة في العنف الغير مبرر أحياناً. وقد صاغ ياسر موسيقاها كعادته بلذة وشفافية، تجعلك تتعاطف مع كل نغمة في الأغنية، و في اعتقادي أن تأرجح اللحن بين الغرب والشرق كان موفقاً، ومناسباً لموضوع الفيلم كما قرأت عن قصته، ونهايات الجمل اللحنية المميزة عند ياسر عبد الرحمن، التي تجعلك تترنم بها حتى بعد انتهاء الأغنية، تجعلك تشارك في التساؤلات المطروحة في الأغنية، وربما في الفيلم أيضاً، وقد أدت روبي هذا اللحن بحذر، مما جعلها تليق بلحن مختلف مثل هذا.


تظل الموسيقى جزءاً من الفيلم السينمائي، وأنا هنا أتكلم عن الموسيقى وحدها فقط، ومن المهم أن نرى الفيلم كي نعرف كيف استلهم ياسر عبد الرحمن موسيقاه من الصورة والحدث.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page