top of page
  • محمد حداد

قراءة في موسيقى الآخر 2

يواصل المؤلفون في هذه المجرة إكتشاف موسيقى الآخر ومحاكاتها من خلال اقتراحات متنوعة من المؤلفات الموسيقية التي تعكس رؤاهم الشخصية أحياناً، وفي أحيان أخرى تكون تفسيراً لما جاء في كتبهم التي ترجمت تاريخنا الثقافي والإثني والإجتماعي عبر العصور.

وفي الموسيقى المعاصرة كثير من التجارب التي توضح ما أقول في شتى الحقول الموسيقية، فمن منا لا يعرف فيلم (لورنس العرب) الذي أبدع فيه بيتر أوتول وعمر الشريف وأنتوني كوين، و من منا لم يستمع الى موسيقى فيلمي (عمر المختار و الرسالة) للمخرج السوري الراحل مصطفى العقاد، بنسختيهما العربية والإنجليزية، ففي كل هذه الأفلام حاول المؤلف الموسيقي الفرنسي موريس جار محاكات البيئة الصحراوية التي يعيشها أبطال قصص هذه الأفلام. مؤلف قادم من مدينة ليون الفرنسية، ينتخبه مصطفى العقاد ليكتب موسيقى فيلميه، بعد أن رأى في أعماله السابقة إخلاص للموضوع، وتفاني في اكتشاف موسيقى الآخر، كما في موسيقى فيلم (دكتور زيفاجو) الذي يتناول قصة دكتور وشاعر روسي، حيث كتب موريس جار لهذا الفيلم موسيقى أصبحت من كلاسيكيات الموسيقى المؤلفة للسينما العالمية.


وينجح جار هنا في صياغة بداية ظهور الأسلام في شبه جزيرة العرب، ووصف الحالة العشوائية التي عاشها العرب من هيمنة واستبداد، وصولاً الى السكينة التي لبست رجال الرسول الأعظم بعد دخولهم في الإسلام، وظهور لحن دال في أغلب المشاهد يحمل ملامح لحن الأذان للصلاة. كل هذه الإنفعالات دخيلة على المخزون الموسيقي لدى موريس جار، لكنه أخلص في اكتشاف ما يناسب أفكاره وخيالاته، من خلال البحث والقراءة والإستماع لموسيقى الشرق، ما جعله قادراً على رسم صحراء الشرق بفرشاة المدينة الغربية، كما فعل مع دكتور زيفاجو، حيث دخل الى تفاصيل البلشفية في النظام الروسي، والحروب الأهلية في الإتحاد السوفيتي، ومخاوف الروس من الحرب العالمية الأولى، ونسج الحاناًً تليق بتلك الفترة والمكان.

أما في فيلم عمر المختار فقد دخل موريس جار الى شمال إفريقيا، حيث الشعوب الليبيه البسيطة والفقيرة التي تعيش تحت شمس الله والحرية، وشارك معهم في دفاعهم عن الكرامة والإستقلال من الهيمنة الفاشية للنظام الإيطالي في تلك الفترة التي قادها موسوليني، والتي حفرت في ذاكرة الليبيين ندباً لا يمحيها الكيّ ولا الإعتذار، دخل موريس جار في تفاصيل الثورة، وركب الخيل مع أسد الصحراء (وهو عنوان الفيلم باللغة الإنجليزية)، واستعار من مقامات الشرق ما تسنى له كي يصف الظلم ولفح الشمس، والرغبة في الإستشهاد حيث يقول المجاهدون في هذا الفيلم جملة وهم يربطون أرجلهم في مواجهة الدبابات الإيطالية: "مرحب بالجنّه جت تتدنّه".



وما دمنا نتكلم عن موريس جار المؤلف الفرنسي القادم من المدرسة الرومانسية في التأليف، ولكي لا ينحصر كلامنا على مدرسة واحدة وتوجه واحد في التأليف الموسيقي ومحاكاته لموسيقى الآخر، سنتكلم عن المؤلف الموسيقي جان ميشيل جار، وهو إبن المؤلف موريس جار، وقد انتهج هذا المؤلف المدرسة الإلكترونية في التأليف الموسيقي، حيث كان رائداً في هذا النوع من التأليف، الذي عكس الثورة التكنولوجية في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وسأمر على عمل واحد فقط يتقاطع مع والده في مسألة الذهاب الى موسيقى الآخر، فقد قدم جان ميشيل عملاً موسيقياً بعنوان (ثورة)، و نلمس في هذا العمل تركيبة جديدة ومغايرة عبارة عن موسيقى (النيو إيج) أو العصر الجديد، مع ملامح الموسيقى التركية الصوفية، حيث يتداخل صوت الكافال أو الكوله بنغماتها الرزينة مع الإيقاع الإلكتروني الصاخب، وينثر (جار) بينها كلمات بصوت يشبه صوت الرجل الآلي وهو يقول:


ثورة

إنسان.. ليس هناك إنسان

حرية.. ليست هناك حرية

تغيير.. ليس هناك تغيير

ثورة

خيار.. ليس هناك خيار

ذاكرة.. ليست هناك ذاكرة

ثورة

جنس.. ليس هناك جنس

تلفزيون.. ليس هناك تلفزيون

مستقبل.. ليس هناك مستقبل

ثورة



ويواصل بهذا الحس الثوري وكأنه يحرض على الثورة لفرط الكبت والحرمان الذي يعيشه الإنسان، وبما أن ملامح الموسيقى التركية (وهي تمثل الشرق بالنسبة لجان ميشيل) فيطيب لي تأويل العمل بأنه يقصد الحرمان عند الشعوب الشرقية والإسلامية بالتحديد، حيث طابع الموسيقى والصوتيات التي تشبه الترنيم الصوفي في الطريقة التركية، تضيف هذا الإحتمال الملحّ بالنسبة لي على الأقل. وفي رأيي أنه كان موفقاً في مؤلفته الموسيقية من جميع النواحي، فمن جهة استطاع أن يرسم صورة جمالية بين الموسيقى الإلكترونية والموسيقى الصوفية، وهما مدرستين بعيدتين كل البعد عن بعض، ومن جهة أخرى أوصل فكرة عميقة لهذا المزيج المبتكر الذي أصدره عام 1988.

فبالنسبة لي كلما كان هناك فكر أو (فكرة على الأقل) وراء العمل الموسيقي، وخصوصاً الجريء في تفاصيله، كلما أثر أكثر في المتلقي، واقتنع أكثر من خلال جمالياته الصوتية قبل دلالاته الفكرية.



RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page