top of page
  • محمد حداد

إرتجالات على لحن بائع متجول




في شهر نوفمبر تمر علينا ذكرى ولادة ووفاة رمز من أهم رموز الموسيقى القومية في مصر، ففنان مثل محمد جمال الدين عبد الرحيم والذي عرف بجمال عبد الرحيم، هو من أهم رواد الجيل الثاني في تأليف الموسيقى المصرية الحديثة، بعد الجيل الأول من المؤلفين كيوسف جريس، حسن رشيد وأبو بكر خيرت (وهو عم المؤلف عمر خيرت).

متكاتفاً مع مؤلفي جيله رفعت جرانه وعزيز الشوان، ساهم عبد الرحيم في غرس الطابع القومي للمؤلفات الموسيقية المصريه آنذك. حيث كان أول رئيس مصري لقسم التأليف الموسيقي بكونسرفتوار القاهرة الذي اقتصرت المناصب العليا فيه على الموسيقيين الإيطاليين ثم الروس.


ربما يكون الكلام عن هذا العمل الموسيقي "إرتجالات على لحن بائع متجول" متأخراً للوهلة الأولى، لكن الذهاب الى هذه المنطقة من الموسيقى التي سكنها جمال عبد الرحيم في النصف الثاني من حياته الموسيقية أمر يتطلب منا اهتماماً كبيراً، علّه يساعدنا على النهوض بموسيقانا التي فقدت هويتها وسط كل هذه الإغراءات الموسيقية الغريبة والألوان الجديدة التي تكاد تبتعد عن جوهر الموسيقى ذاهبة الى ما يشبه الأصوات المحمومة والتائهة..

فلو تأملنا تجربة مثل تجربة عبد الرحيم سنجد كثيراً من الأجوبة التي تؤكد أن الذهاب الى الموروث اللحني ومعالجته بذكاء الحداثة الهارمونية وأدواتها هو أجمل الطرق وأكثرها رحابة وصدقاً في تأليف الموسيقى القومية.


نرى في هذا العمل الذي كتبه جمال عبد الرحيم لآلة التشيللو منفردة (والذي أهداه الى زوج ابنته كامل صلاح الدين) أنه اعتكف على البحث عن مكنونات الألحان الموسيقية بين ثنايا الحارة المصرية البسيطة بتنوع الوانها، وحرارة شمسها متنقلاً بين رشاقة صبايا (الموسكي) بألوان ثيابهن الباهرة مخفورات بملايات اللّف، حيث (ترتر) المناديل يصبح مراياً لشمس الله.


فعندما يذهب جمال عبد الرحيم في "إرتجالات على لحن بائع متجول" الى هذه المنطقة الحميمة من المجتمع المصري التي تلمس الشغاف ببكارتها اللحنية وطفولية إيقاعاتها، ويترجمها الى أعمال مركبة مصاغة بشكل أكاديمي مدروس وغني بالتعدد اللحني (البوليفونية)، فتدرك حينها بأنه ألبس التشيللو (الجلابية اللحنية) التي تتناسق ألوانها و اللون الشعبي للنغمات المرشحة بأن تكون المتحدثة عن موضوعه المنتخب..


لأجل هذا الإحتراف كلهأأ أسترجع هذا العمل النادر الذي حاول من خلاله عبد الرحيم (وأعتقد بأنه نجح) في كتابة الزقاق المصري خصوصاً ساعة الفجرية حيث ينثر الباعة المتجولون أشيائهم التي لا يتعرف عليها الشخص مباشرة من فوق (البلكونة)، لذلك يبتكر كل بائع (لحناً دالاً) يجعل له شخصية معينة (ينده) بها على الزبائن للتعريف بسلعته، فتصبح (الأوطه مجنونه) والبطاطا (معسله قوي) ويباغتك بائع النعناع سائلاً (حد عايز يشتري نعناع وناسي؟) وكأن شراء النعناع من عنده طقس واجب، ولكن لربما النسيان أخذك عن تذكر ذلك لكثرة مشاغلك، وفي الخلف يأتي بائع أنابيب الغاز محروساً بدعاء والدته قبل خروجه وهي تقول:(ربنا يفتحها في وشك يا ابني!!)، طارقاً مفتاحه الإنجليزي على أنبوبتين متجاورتين في إيقاع متقطع وكأنه يرسل تلغرافاً للستات اللاتي يصحين (من النجمه) ليغلين اللبن... فبعضهن لا تشتعل نارهن إلا بحضوره!!!

كل هذه الصور التي تعكس الواقع المصري لم أرى لها مرادفات بهذا الإتقان في الموسيقى العربية الحديثة (لكني لا أنكر بعض المحاولات الجاده) إلا أنها لا تتعامل مع اللحن الشعبي بمخزونه الدرامي والإثني بقدر ما يكون التعامل معه في صيغة توزيع جديد للعمل سواء للأوركسترا أو لموسيقى الحجرة، او في بعض الأحيان في صيغة إرتجالات على اللحن نفسه..

في نفس الوقت نجد هناك كثير من التجارب الغربية التي تناولت الموروث في صياغة معاصرة.. فقد قام المؤلف المجري بيلا بارتوك الذي يعتبر رائد الموسيقى القومية المجرية، بصياغة التراث للأوركسترا دون أن يفقده صبغته العرقية، والكلام عن بارتوك سيطول اذا دخلنا في المراحل المختلفة التي مر بها وهو يتناول تراثه الهنغاري. وفي تجربة أخرى مقاربة لمحاولة جمال عبد الرحيم أقدم عليها المؤلف الموسيقي (لاينل بارت) في الفيلم الغنائي أوليفر تويست المأخوذ عن رواية تشارلز ديكنز، ففي مشهد الصباح يستيقظ أوليفر ليشاهد بائعة الورود تتغزل في ورودها تتداخل نغماتها مع بائعة الحليب ثم يأتي شاحذ السكاكين بصوته الغليظ ليتداخل معهن في توليفة لحنية نرى فيها حرفية اللحن المضاد (الكونتربوينت) بين الأصوات التي تتكاثر بعدد الباعة المتجولون في الشارع الإنجليزي في ذلك العصر.


استطاع جمال عبد الرحيم تقديم الموسيقى المصريه بدون اللجوء للتطريب أو السلطنه ولكن بإخلاص تام لكل عناصر اللحن. ومن أعماله فانتازيا للعود، فانتازيا على لحن شعبى للفيولينة والأوركسترا، اوبرا «حسن ونعيمة»، الى جانب كثير من الأعمال الشعبية المصاغة برؤية جديدة مثل مرمر زماني والحنه ويا بلح زغلول التي كتبها للكورال والأوركسترا.


ولد جمال عبد الرحيم في نوفمبر 1924 بالقاهرة - وتوفى في نوفمبر 1988

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page