top of page
  • محمد حداد

قراءة في موسيقى الآخر 6


عندما يذهب المؤلف الجنوب أفريقي تريفور جونز يصحبه المؤلف الأمريكي راندي إيدلمان في تجربة موسيقية تغوص في أعماق قبائل الهنود الحمر في فيلم (آخر المحاربين الموهيكان)، حيث يسردان قصة آخر محاربي هذه القبيلة النبيلة، نراهم يدخلان في جدل حساس مع الحق الضائع لنغمات شعب يحفر في أحفاده وشماً عميقاً لكي لا ينسى.


فيتفنن تريفور جونز في الكتابة المشحونة بالنار، خصوصاً انه قادم من مخزون أصله الإفريقي، حيث نارة المشاعر تشتعل كلما نزلت العصى على جلدة الجسد و جلدة الطبول في نفس الوقت، الى جانب معرفته الكبيرة بتاريخ الموهيكانز، وثقافتهم الموسيقية والإيقاعية التي تحرس أحلامهم، وتؤثث قصص أطفالهم، فنراه يكتب موسيقاه مستحضراً أكثر الألحان إثنية، بآلات لها طعم العراء والبحث عن الذات. نغمات لاهثة وراء الحب وكسر القيد.. هكذا يبدأ تريفور جونز طريقه الى موسيقى الآخر.

ففي هذه الملحمة الموسيقية تحاول الأوركسترا التي يرسمها جونز وإيدلمان معاً صياغة صور الحرب بين الفرنسيين والهنود الحمر من جهة، والبريطانيين والفرنسيين من جهة أخرى، فنستمع الى أبواق الحرب أحياناً وهي تطغى على المشهد الموسيقي، وفي أحيان أخرى نستمع الى الكمان المنفرد وهو يرسم الطقس القبلي لأوروبا، والحضري للموهيكانز، في تناقض جميل ومليء بالإسقاطات الذكية.


ومن الأفلام التي مررت عليها وكانت تحوي نخبة من أهم الممثلين في أمريكا، فيلم (دون خوان دي ماركو)، الذي قام ببطولته الممثل الراحل مارلون براندو والمبدع جوني ديب، بمصاحبة الممثلة المخضرمة فاي دانواي، لكن هذا الفيلم لم يلق اهتماماً كبيراً من قبل النقاد والصحافة.. ربما لهم أسبابهم.


لكن المميز في هذا الفيلم بانسبة لي على الأقل هي موسيقاه التي توقعت أن تترشح للأوسكار لبراعة تنفيذها وذكائها، التي كتبها المؤلف الأمريكي الراحل مايكل كامن الذي اختزل فيها الثقافة الهسبانية وخصوصاً المكسيك، فجاءت موسيقاه مشحونة بالمقامات والإيقاعات المتأثرة بإسبانيا وجمرة الحب الملتهب، فقد اعتنى (كامن) وهو يكتب هذه الموسيقى بالمرور على الموروث الإسباني ولو بشكل سريع، فيأخنا الى مقاماتهم الغجرية والحزينة أحياناً، وفنلمح أحياناً ظهور شبح لموسيقى كارمن التي أبدعها الفرنسي جورج بيزيه، وهو أيضاً من المؤلفين الذي ذهبوا الى موسيقى الآخر بثقة واحتراف.


ومن الأمور التي ساهمت في تأجيج وتأكيد الروح الهسبانية لموسيقى مايكل كامن في هذا الفيلم، هو وجود عازف الجيتار الإسباني (باكو دي لوسيا)، هذا المؤلف وعازف الجيتار الذي يعتبر من أهم رموز موسيقى الفلامنكو في هذا العصر، فقد أضافت أنامله للعمل الموسيقي (الذي كتبه الأمريكي كامن) إثنية خاصة ومصداقية تقرب ما أراد كامن قوله بشكل أكبر، حيث أنه ألبس الأوركسترا ثوباً يشبه (الهيوبل) الذي تلبسه نساء المكسيك، فقد اشتركت جميع الآلات في صياغة الحب الجامح الذي يسكن سيد العشاق دون خوان دي ماركو، فأصبح عازف الكمان الأول في الأوركسترا يتقن اللحن الغجري والمقامات الشبيهة بالروح الغرناطية، و تمعن آلة الكورأنجليز في تلوين النغمات بصوتها الحنون.


و في تجربة أخرى نلمس هذا النوع من الجرأة في الكتابة الموسيقية في موسيقى الفيلم الكارتوني أناستازيا، الذي يحكي قصة إبنة رومانوف قيصر روسيا الوحيدة التي ظلت على قيد الحياة بعد الثورة البلشفية، فنرى المؤلف الموسيقي الأمريكي ديفيد نيومان مع الملحن ستيفن فلاهرتي يبحثان في موسيقى روسيا بعناية، حيث يستلهمون في موسيقاهم الحاناً تقترب من نفس الأجواء اللحنية للتراث الروسي من بولكات ورقصات شعبية أخرى، ثم استخدامهم لآلات مثل آلة (البلالايكا) الوترية التي تعتبر من أشهر الآلات الفلكلورية في روسيا، خصوصاً في موسيقى أغنية (حدث ذات ديسمبر)، ويمر فلاهرتي أيضاً على الموروث الفرنسي في أغنية (باريس تمسك بالمفتاح)، حيث آلة الموزيت التي تنثر أجواء مقاهي الحي اللاتيني في وسط باريس، ترافق الغناء لتؤكد الصورة الفرنسية للمشهد الكارتوني والموسيقي.


كما تناول المؤلف الموسيقي الراحل جيري غولدسميث بعض الثيمات التي تأخذنا الى مصر القديمة من خلال رؤيته الخاصة لموسيقى الشرق في موسيقى فيلم (المومياء) الجزء الأول، فكتب غولدسميث ألحاناً تقترب من الأبعاد النغمية في موسيقانا العربية، خصوصاً أنه يصور أماكن حميمة مثل ميناء الجيزة وإهراماتها بأسرارها التي لا تنتهي.

كل هؤلاء المؤلفين الموسيقيين دخلوا في حوارية عميقة وطويلة مع ثقافات بعيدة كل البعد عن موروثهم الموسيقي، واستطاعوا أن يثبتوا لأنفسهم أنهم جديرون بخوض تجارب موسيقية بأدوات ليست لهم، سواء في اللحن أو في الخامة الصوتية من آلات موسيقية أو إيقاعية.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page