top of page
  • محمد حداد

الأدلاء .. يؤثثون الأفق ويكتبونني



بقلم : محمد حداد


في رحلة الموسيقى التي ذهبت لها مبكراً.. صادفت كثيراً من الأدلاء الذين أضاؤو لي الطرق والمنعطفات الموسيقية، والذين اقترحوا عليّ ذوائق مختلفة، فتحت لي الباب على آخره، حيث اخترت معهم ما يطيب لي من مقامات وقوالب تسعفني في طرق العزف وبيوت القصيد.. أدلاء يتخفون في هيئة أساتذة وأصدقاء، أب وأم، حبيبة وأخوة، تلاميذ وزملاء عمل، عازفين ومؤلفين، نقاد وبوابين، أطباء وباعة كتب، شعراء وأصحاب ورش، متصوفة ومناضلين، محامين ومسرحيين، طباخين ومغنين.


مررت عليهم جميعاً.. حيث سكب لي كل منهم قهوته الصارخة كي أعرف الحلو من مره، والنجاح من كبوته الأولى، والنغمة من تنافرها الأجمل. مررت ولازلت عند الجادة الأولى، أتخبط الحب والموسيقى، أكتب نغماتي وأستحضر حبهم فوق دفاتر النغم.. أشخاص يجعلون من الحب ورشة للموسيقى، ومن الموسيقى يبنون قلاعاً من التآويل التي تحرسني وتشعل لي قناديل الغرور بزيتها القليل الذي لا يكفي إلا لشعلة صغيرة، تدفء زغب الروح وتنطفئ كي لا أبالغ في النشوة.


مررت عليهم سريعاً.. ولم أعرف بأن كلامهم بوصلة لا تخطئ، وخريطة يتقاتل من أجلها قراصنة الحب.. كلامهم ذهبٌ يزين الروح ويجعل القلب في قصر الخدر.. كلامهم نقطة الحرف وهي تصحح اللفظ وتأكده.. كلامهم وسادة مبللة بدمعة طفل يحضنها وهو نائم بعد ليل مليئ بالبكاء.. كلامهم قبلة نبيّ فوق جبين الخوف كي يهدأ من خوفه.. كلامهم نبيذ مخبأ في أقبية القلب، حيث العصرة الأولى من عنب الكلام، لا طعم يضاهيها إلا دعاء الأم في ظلمة الصلاة.


كيف لي أن أسرد ما تركوه فيّ من وشم يحرس ماتبقى من شظايا روحي المرتبكة؟.. كيف لي أن أنسى تعاويذهم وهي تعبّد لي الطرقات التائهة؟.. كيف لي أن اشرح أنهم سلبوا مني أحلامي في الليل وتركوني وحيداً بين وسائدي، فأصحوا متأخراً لأجد الحلم ينتظرني عند ناصية الحقيقة؟.. كيف لي أن أتأكد بأنكم تصدقونني؟.. هكذا كانوا يفعلون بي..


أب وأم يبذران الحلم في وردة روحي، ويرويان لي الماء والحكايا المستحيلة التي مرت عليهما، يمنحاني الريش مبعثراً في غرفة غربتي ويغلقان الباب عليّ ويذهبان، وهما واثقان بأن الأجنحة ستنتهي في موسم الحصاد الثاني بعد المسيح.. أبوان يبيعان مطاياهما ويترجلان، فقط كي يمنحاني فرصة (ليست أكيدة) لأركب النغمة الحرة وأذهب الى مبتغاي.. يتعهدان سراً مع شخص يملك من الحب ما يكفي نصف كوكب، ويكتبان معه النصوص والطلاسم في سر الورق.. أكشف أوراقهم لكن متأخراً..



والأخوان يغيران مشاريعهما، ويهشمان طين القرية كي يمنحاني ما تبقى من فضة الوقت والنحاس المؤجل.. وصديق (من مستحيله الثالث) يصغي لكل حرف ليتأكد بأنه لم ينس حلماً من أحلامي لكي يشارك في صياغته.. وحبيبة تبذل وقتها في ترتيب أحلامي القلقة حلماً حلماً، تنفق نصف مستقبلها كي تفتح لي طريقاً جعل الموسيقى أكثر وضوحاً وسلاسة، وتبذل النصف الآخر من مستقبلها في كتابة الحب على جدران أوراقي العطشى، تضغط بأناملها على يدي عند عتبة التجربة، وتهمس في أذني بالتعويذة السرية عند مفترق النهارات، وتمسح الحمى عن جسدي قبل العرض الأول.


وكثير من الأعداء المقربين يتبادلون معي الأفكار الجريئة، يصغون باهتمام ويكترثون لأدق التفاصيل، يباغتونني بالحب والطعنات اللذيذة، أعجب بهم، وأعجب بأنهم مازالوا يذكرون اسمي، أحبهم فراداً ومجتمعين ولا أكف عن ذلك.. أمنحهم قلباً معافى في كل مرة، كي يتدربوا على راحتهم دون أن تزاحمهم طعنات الآخرين.


كل هؤلاء ساهموا في صياغتي وكتابة مشروعي الموسيقي المزعوم، الذي لم يتجاوز صفحاته الثلاث، ولو نظرنا لوجدنا بأن الصفحة الأولى للعنوان والإهداء الذي أذكر فيه الأدلاء جميعهم، و الصفحة الأخيرة للشكر والفهارس التي تبعثر أكثر مما تلمّ، فتبقى الصفحة الثانية، التي نصفها في البياض، والنصف الآخر في مسودته الثانية.. هكذا أنا..



مازلت في بداية القلق.. والأدلاء يؤثثون الأفق.. والنغمة محيَرة دائماً.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page