top of page
  • محمد حداد

قراءة في موسيقى الآخر 3


من بين التجارب التي يذهب فيها المؤلفون الموسيقيون الى ثقافات أخرى غير موروثهم الأصلي، تجربة المؤلفة الموسيقية، الباحثة، والمغنية الكندية لورينا ماك كينيت التي أغوتها الموسيقى، وهي في طريقها لدراسة الطب البيطري في بريطانيا العظمى، حيث عكفت على البحث في موسيقى الشعوب، وخصوصاً الموسيقى السلتية، التي ظهرت في ويلز وأيرلنده، وتخصصت في العزف على آلة الهارب السلتي، وأثرت بحثها الموسيقي بالسفر المستمر، والإستماع الى موسيقى الآخر بشكل حي، ومن جهة أخرى فقد كونت لها فرقة موسيقية، مؤلفة من مجموعة عازفين قادمين من ثقافات وأعراق مختلفة، مما ساهم في تلوين موسيقاها، وإضافة الطابع الكوني لها.


ففي إصدارها الموسيقي الغنائي الذي حمل عنوان " القناع والمرآة "، رسمت لورينا لوحات موسيقية وغنائية مدهشة في تراكيبها الجديدة، والمتنوعة. ففي أغنية "الحلم الغامض" تذهب بنا الى غرناطه، لتدخلنا في تجربتها الخاصة هناك، فتصف لنا أضواء قصر الحمراء، ورائحة الخشب المحترق، فنستمع الى مزيج من الأصوات الرجالية الكنائسية بهمهماتهم البوهيمية الى جانب صوت الناي الشرقي والعود والطبلة المشدودة، صورة فيها من التصوف اللحني الكثير.


أما في " سوق مراكش الليلي " و" دائرة مكتملة "، فتقول لورينا بأنها زارت المغرب في شهر رمضان، وكانت تجربة فيها كثير من الطقوس النابضة بالحياة، الى جانب أنها استمعت لأول مرة لأصوات في منتهى الجمال لرجال يترنمون عند الساعة الخامسة والنصف فجراً، وتعتقد بأنهم كانوا ينادون ربهم . وتتسائل أين استمعت الى كل هذا من قبل؟


يحوي هذا الألبوم أيضاً تأثيرات سلتية، حيث المقامات الموسيقية القادمة من العصر الفيكتوري، الى جانب بعض النصوص التي استعانت بها لورينا لكتاب أمثال يوحنا الصليبي (1542 - 1591)، و ويليام شيكسبير (1564 - 1616)، فهذه الجرأة في التعامل مع نصوص قديمة، ومحاولة إحياءها ومزجها بالآلات الحديثة والمتعددة الأعراق، تفتح باباً جديداً لحوار الثقافات، وعندما تقول لورينا أن مصادرها التي ألهمتها هذه الموسيقى عبارة عن مزيج من الكتب المتعددة، ومؤلفين مثل أمين معلوف وماركو بولو وإدريس شاه، كما غنت بعض القصائد الملحمية للملك آرثر وهنري الخامس، وتأثرت بتجارب صوتية مثل نصرت فتح علي خان، والعميق في تجربتها هو أنها تستعين بموسيقيين من ثقافات مختلفة، بعد أن تشرب من هذه الثقافات ما يجعلها قادرة على إدارة كل هؤلاء الموسيقيين باختلاف رؤاهم، فحسام رمزي عازف الطبلة المصري، عندما يعزف بمصاحبة عوفرا هاروني عازفة الشيللو الإسرائيلية المولد، وأبراهام توفيق عازف الناي التركي، ورافي نايبالي عازف الطبلة الهندية، وبريان هيوز على الجيتار الإلكتروني، تصبح اللوحة الموسيقية مليئة بالألوان الفاقعة، مما يحتم على لورينا إعادة صياغتها كي نستطيع أن نستمع الى أغنيات الكريسماس تؤدى على إيقاع البلدي، دون أن نشعر أنه دخيل عليها، وآلة الكمان ترتجل تقاسيماً شرقية بكل سلاسة في نفس الجو.


ومن التجارب المؤثر أيضاً في تناولها لموسيقى الآخر، هي موسيقى فيلم "الإغواء الأخير للمسيح"، الذي أخرجه المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي عن رواية الكاتب اليوناني نيكوس كازانتساكيس، وقام وليام دافو بتجسيد شخصية المسيح في هذا الفيلم، الذي أثار الكنيسة الكاثوليكية من حيث تناوله الجريء لشخصية حساسة ومؤثرة في التاريخ الإنساني. وقدم المغني والمؤلف الموسيقي الإنجليزي بيتر غابرييل في هذا الفيلم مجموعة من الألحان متعاوناً مع موسيقيين من ثقافات مختلفة ليرسموا معه صورة تتسع للعالم المسيحي بأكمله، بل تتجاوز الديانات لتذهب الى المسيح في كونه رمزاً إنسانياً يمنح تفاصيله للبشر جميعهم.


واشترك مع غابرييل في هذا العمل كثير من الموسيقيين والمغنين كالمنشد الصوفي الباكستاني نصرت فتح علي خان، والمغنيان السينيغاليان يوسو ندور و بابا مال، وعازف الكمان الهندي ل. شانكار، الى جانب عازف الطبلة المصري حسام رمزي، وعازف الناي التركي قدسي إيرغونير، وعازف الكامانجه الإيراني محمود تبريزي زاده، وعازف الدودوك الأرميني فاتشي هوسبيان.



في حضرة هذه الأسماء المتألقة موسيقياً تكمن التجربة، فموسيقى الفيلم قائمة على الكثير من الإرتجال واللعب على روح الموسيقى، فليس اللحن هو المهم بل تأثيراته هي ما كان يرنو اليه بيتر غابرييل عندما جمع كل هذه التجارب المختلفة. ففي صرخات نصرت فتح تطفر آلام المسيح، والتي تسمى (باشن)، ففي صوت هذا (القوال) وجد غابرييل ما يفسر آلام الجسد والروح للسيد المسيح، عندما افترش خامات صوتية تحتضن التصاعد اللحني في صوت نصرت فتح، مع ضربات الإيقاع التي تشبه تلذذ البشر في تعذيب الأنبياء. وذهب أيضاً الى موسيقى الزار المصري في محاكاة لتطهير النفس، وهذا الطقس يتقاطع والمهمة الأساسية للمسيح. وفي مقاطع أخرى يتعرض غابرييل مع هذه المجموعة المبدعة من الموسيقيين، الى نماذج عميقة من موسيقى الشعوب، كأغنيات شعبية كردية وأرمينية، يبدعها عازفوها بشكلها التقليدي، ولكن يتعامل معها غابرييل بمعالجات إلكترونية حديثة تجعل منها أكثر رحابة وأقل خصوصية.

كل هذه الجرأة الموسيقية أضفت على الفيلم هوية مفتوحة على العالم كله، وأصبح هذا الإصدار الموسيقي من أهم الإصدارات في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي.


RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page