top of page
محمد حداد

نغمة تضاهي الدرس كله

الى خالد الشيخ بعد صفحاته الثلاث


بقلم : محمد حداد


ساهم في رسم طريقي وطريقتي .. أثث ذاكرتي وطموحي بذوقه النادر.. مثل قنديل يرشد مريديه لغرف اللحن المبتكر وأروقة الكلام النبيل.. دلّني على الموسيقى وهي تدخل في الكلمة فيطفر لحن الأغنية طازجاً مثل طفل يكتشف ملامح أمه للمرة الأولى، ساهم في تصنيف الذائقة البحرينية بمنتهي الذكاء والإتقان ولم ينس أحداً.. كان يمنح الوجه الأول من أشرطته لكل من يحب الفن الخليجي اليقظ بكل تفاصيله المألوفة ولغته الدارجة التي يستوعبها الجميع.. ولكنه يترك قندة أعماله للوجه الثاني من الشريط حيث يمنحها لكل أذن تعشق المختلف وتقامر معه في الذهاب الى النص المشحون واللحن المحتقن والتوزيع المتأني.. يختار لنا في الوجه الثاني شعراً ينطق باللغة الدارجة أيضاً، لكنه يختار نصاً حميماً ليضع له لحناً أشبه بالصلاة، فتخرج الأغنية مثل تعويذة تحرس لهجتنا من الضياع و تمنح المكتبة الكونية للألحان في الخليج مكاناً شاسعاً لا يليق إلا به.. والأجمل من ذلك هو ذهابه المبكر للقصيدة الفصيحة، فمنذ البومه الأول KS1 منح القصيدة سريراً بسعة الحب، لذلك يحتوي الوجه الثاني من اشرطته غالباً على أغنيتين فقط، وأحياناً ثلاث أغنيات.. فالقصيدة الفصيحة عنده ترتاح في لحنها دائماً.. فكان محبوه ينقسمون بين الوجه الأول والوجه الثاني للشريط ، ويجتمعون في عشقهم له.


منذ اصداره الأول وانا أرصد نغماته كلها، حيث قمت بحفظ تصنيف أشرطة الكاسيت الخاصة به بدءاً بشريطه KS1 مع شركة النظائر، وصولاً الى روتانا.. بهكذا تصنيف رسم خالد الشيخ خريطة منصفة لمستمعيه في الثمانينيات، وبهذا التصنيف أيضاً استطاع رصد التشابه والإختلاف بين جيل كامل يعشق ما يقدم. وفرض (بحب) احترام حتى من لا يصغي له. ولم يعرف أن في تجاربه التي دخلها مع مغنين خليجيين وعرب أنه استحوذ على شريحة كبيرة من المستمعين حين بدأ في حقن الحانه في أوردتهم بأصوات مغنين آخرين .. فأستطيع الزعم بأنه كلما وضع لحناً لفنان، أصبح البوم هذا الفنان يذكر باسم الأغنية التي وضع لحنها خالد!! فمن يرصد الأغنية في الخليج يستطيع تفسير هذا الوهج الذي يمنحه لحن خالد لأي البوم غنائي في المنطقة..


شخص إذا دخل في تجربة مع أحد الفنانين لا يخرج منها إلا بعد أن يعصر آخر عنبة في كرمها..


(علي الشرقاوي): ثنائية نادرة بلغت ذروتها حين استطاع خالد ان يكتب لحنه في البداية ثم يكتب الشرقاوي كلماته ليلبسها اللحن الذي تآلف معه بحراً بحراً كما حدث في أغنية (سافر)..

(محب ميلاد): ذهب في الصوت الى منتهاه وشارك خالد أعمالاً لا تنسى (هندس معظم إصداراته)..

(شعبان أبو السعد): بتوزيعاته الرشيقة منح أجمل أغاني خالد ثوباً يشف عن روحه الحالمة (يامحمدي، ولا تنسيا)..

(أشرف محروس): أشعل الحان خالد بتوزيعاته الثائرة والذاهبة في موسيقى العالم منذ (مستحيل)..

(قاسم حداد): دخل معه في كهف اللغة مما جعله يذهب في وحش النغمات كي يحاكي غموض النص (وجوه)..

(عبدالله الرويشد): حنجرة يؤمن بها خالد حيث انها تتقن ما يكتبه لها أينما ذهبت النغمة (تصور، وينك، لمني بشوق)..

(عبد المجيد عبدالله): يمنحه شريطاً كاملاً من الألحان مثل صديق يسرد أسراره لرفيقه الذي يثق به (آن الأوان، طائر الأشجان)..


كل هذه الثنائيات حفرت في آذاننا درساً مثل الوشم المقدس، يظل محفوراً في الجسد حتى لو فقد الشخص إيمانه..


عندما بدأت في كتابة هذا المقال كنت انوي الذهاب الى الكلام عن أعمال خالد الشيخ من منطقة لم يكتب عنها أحد من قبل، وهي الجمل الموسيقية الخاصة بآلة العود التي يعزفها خالد بنفسه في الأغاني التي يلحنها.. وكم كان يؤرقني تأخري في الكتابة عنها، فهذه (الصولوهات) المجنونة كان يترك لها مكاناً آمناً في معظم الأغاني التي قام بغناءها أو تلحينها، تلبستني من خلال تحولاته بين نغمات صولو العود المستمد من اللحن الأساسي للفاصل الموسيقي في الأغنية، صولوهات تأخذ النفس لشدة جرأتها وتمردها على أي صولو يعزف في أغنية خليجية غير أغانيه، فقد كنت أجبر نفسي أحياناً على شراء أشرطة لمغنين لم أسمع لهم قط، فقط لأن في الألبوم أغنية واحدة من تلحين خالد الشيخ..


فصولو العود في أغنية (غيبة زمن) كانت جرأته تتجاوز العود الخليجي في منتصف الثمانينيات.. فالتكنيك الذي يملكه خالد يختلف عن مدرسة العود الكلاسيكية في الخليج خصوصاً في طرق التعامل مع الثيمة الموسيقية وتطويرها أثناء عزف الصولو .. أيضاً في المقدمة الموسيقية الخجولة لأغنية (خذني معاك)، فالحوارية الحالمة بين آلة العود والتشيللو نادراً ما نصادفها في (أغنية خليجية)، وكذلك صولو العود المفاجئ في (أغنية حب) الذي اخترق جو الأوركسترا بذكاء وكان أشبه بحوارية الكونشيرتو التي تتطلب عازفاً مبدعاً وليس ملحناً فقط، كذلك صولوهات العود في أغنيات من الحانه مثل (غردي) لمحمد البلوشي و (آن الأوان) لعبدالمجيد عبدالله.. طبعاً لا يغيب عنا أن كل هذه التراكيب المبتكرة في الأغاني تكون من اقتراح الموزع الموسيقي بالدرجة الأولى، فهو الذي يضفي الألوان الصوتية التي تسعف اللحن وتذهب به الى أجمل الإحتمالات.. لكن كلامي هنا عن الإبداع في عزف كل هذه الأفكار على العود باحتراف العازف المتمرس الذي لا يتنازل عن فرصة إظهار هذه الأفكار بشخصيته المتفردة.


قمت بتجميع صولوهات العود في كل هذه الأغاني منذ زمن الأشرطة (مع صعوبة القص واللصق في تلك الفترة) ولكن لم أجرؤ على إكمال هذا المشروع الذي لو تأملنا فيه لوجدنا أن هناك عازفاً نادراً متخفياً في صورة ملحن، عازف تسكنه الموسيقى أكثر من الأغنية، مؤلف موسيقي يجب علينا إعلانه رغماً عنه.. لقد زرته ذات شقة في ميدان سفنكس، وعندما دخلت غرفته رأيت كتاباً لعلوم الهارموني مفتوحاً وأمامه قلم وأوراق.. شخص في قامته مازال يبحث عن درس الموسيقى بين الكتب!! لم يكتف بما قدم لنا من دروس مازلنا ننهل منها..


ذهاب خالد الشيخ للنثر بعد الشعر ماهو إلا دليل آخر على جمرة المؤلف الموسيقي التي لم تهدأ فيه وهو يحاول ألا يقف في طريقها.. ففي النثر (ليس هناك ما تستند عليه غير جرأتك) كما كان يقول وهو يشتغل على مشروع وجوه الذي كتب نصه قاسم حداد.. فخالد عندما دخل للنثر خلع عباءة الملحن فظهر ثوب المؤلف الذي كان مختبئاً طوال الوقت.. فمنذ تلك التجربة وأنا ارقب الحانه التي تحررت من أعمدة الشعر وقوافيه.. وذهبت في ابتكار اجنحتها الخاصة.. رسم هوية أخرى للكورال الغنائي وحرره من شخصية (الردادة) التي لازمت الكورال منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن .. منحه نصيباً مستقلاً من القصيدة المغناة، فلم يقتصر دوره على إعادة المذهب فقط.. ثم ذهب بأغنيات كاملة للكورال فقط..


الكلام لا ينتهي ولا أعتقد بأنني أجد نهاية منصفة لكل هذا الوهج الذي نحن بصدده.. فكل هذه الأفكار المبعثرة لا تسعفني فيما اريد، فمازلت لا أعرف من أين أبدأ الكلام عن سيرة خالد الشيخ بعد ثلاثين عاماً من الورش التي لا تسكت فيها نغمات الروح عن العمل..


له منجم القلب والقبعات تتطاير له، وانحناءة طويلة.. لعله يعرف!!

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page