سكر بنات.. حلاوة التمرد على الوهم
أعرف أن فيلم (هلأ لوين؟) هو فيلمها الذي يجب أن اتكلم عنه هذه المرة.. لكنني سأترك الحديث عنه لنغمة أخرى فهو فيلم مليء بالنغمات المختلفة التي تتطلب وقفة مختلفة بالنسبة للموضوع والموسيقى التي أبدعها خالد مزنر.. فعند مشاهدتي الأولى لفيلم سكر بنات أو (كاراميل) كما يحلو لهن تسميته، دخلت في تجربة نادرة بالنسبة للفيلم العربي المعاصر، وخصوصاً لمخرجة مثل نادين لبكي التي تجاوزت تجربة الفيديو كليب، كي تقامر بتجربتها الأولى في السينما الروائية، بفيلم يستنطق الحياة برشاقة الصورة وذكاء النص، مع طاقم رائع من المبدعين في التمثيل أمام الكاميرا، الى جانب فريق محترف يقف خلف الكاميرا.
لا يحق لي أن اتكلم عن فيلم سكر بنات من وجهة نظر سينمائية، لكن ما أخذني في هذا الفيلم هو ذكاء الطرح لمواضيع متعددة تشترك في (ثيمة واحدة)، وكما هو في الموسيقى ما يطلق عليه اللحن الدال، الذي برع فيه المؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاجنر بعد تأثره بالمؤلف هيكتور برليوز، وهو اللحن الذي يمثل فكرة معينه أو شخصية ما، ويكون ملازماً لها طوال الوقت في العمل الموسيقي السردي أو الدرامي. ففي هذا الفيلم شاهدت ثيمة أولى وثيمة ثانية تمشيان بشكل متوازي نلمسهما بين طيات الفيلم.
فقد نجحت نادين لبكي في هذا الفيلم في عزف الثيمة الأولى التي ترسم للمتفرج صورة الوهم المستفحل في حياة هذه الشريحة من الناس الذين يسكنون (ست الدنيا) بيروت.
فإذا دخلنا الى تفاصيل أحداث الفيلم، سنصادف:
ليال: المسيحية التي تعيش وهم أن عشيقها سيترك زوجته ليتزوجها، وتحاول في كل مرة إقناع نفسها بهذا..
نسرين: المسلمة التي تنسج الوهم لخطيبها كي لا يكتشف بأنها ليست عذراء، وتساندها صديقاتها في ترقيع الأوهام المهترئة..
جمال: وهي إمرأة تعيش وهم الشباب الذي لا ينتهي، وتفتعل الأنوثة اليافعة بالدماء الملفقة..
روز: التي تعيش وهم الحب المتأخر، وتعتقد بأنها قادرة على ترك أختها التي تكبرها سناً وتصغرها عقلاً، لكنها تعرف في النهاية أن كل ما تمر به هو وهم..
ريما: تائهة بين شخصيتين، الأولى يجب أن تكونها، والثانية تحب أن تكونها، بعيدة عن أنوثتها فيما هي أقرب الى أنوثة الأخريات، يشاكسها وهم الهوية الجنسية المتأرجحة طوال الوقت، وذكاء المخرجة في التعامل مع ولع ريما بإحدى زبائن الصالون يظهر في كثير من الإيماءات بينهما، لكنه يتجلى في دخول الزبونة للصالون في إحدى الزيارات بعد غياب، حيث نشاهد إنبهار ريما بها من خلال انعكاس صورة الزبونة في المرآة، ولهذا دلالات كثيرة على أن ماتراه ريما ما هو إلا صورة للأنوثة المغيبة فيها والحاضرة في كل ما تراه.
أما يوسف: رجل الشرطة فهو الوحيد بالنسبة لي من حافظ على تمسكه بوهمه حيث وضع الوهم في خانة الحلم، فظل مخلصاً لولعه المكبوت بفتاة الصالون ليال، حتى استطاع الدخول لعالمها اليومي داخل الصالون، وبذلك استطاع سكر البنات أن يحرره من وهم الرجال وهو الشارب.
أما الثيمة الأخرى التي تظهر في هذا الفيلم فهي الحياة المزدوجة لشخصيات الفيلم التي تحاول أن تظهر نفسها أمام الآخرين المحيطين بها في داخل منزل كل شخصية بصورة أخرى غير شخصيتها الحقيقية، فنرى جميع الشخصيات التي ذكرتها تصارع نفسها وهي تكبت رغباتها اليومية، حتى تصل الى أن تثور في نهاية الفيلم، حيث تبدأ بثورة بسيطة وهي عندما تدخل الزبونة بكل ثقة لتقص شعرها وتتمرد بذلك على رغبة أهلها المسيطرة عليها طوال الوقت.. من هنا يبدأ التمرد.
وسط كل هذا تأتي موسيقى الفنان خالد مزنر لتعكس كل هذه الإنفعالات المتضاربة، فنصغي الى موسيقى التانجو التي يتلبسها الإيقاع البلدي بصورة خجولة وحذرة، فيظهر اللحن مرتبكاً ومشحوناً بالتناقضات كما شخصيات الفيلم تماماً، وهنا تكون فكرة الوهم أكثر رحابة، ففي الموسيقى نرى صراع العرق والأصل وهما يسيطران على التمرد والرغبة في التحرر، فموسيقى المؤلف مزنر الذاهبة الى أمريكا اللاتينية أو ما تمثله دول المهجر من وهم النجاة لأغلب اللبنانيين، أعطت دليلاً آخراً على إرتباك الهوية ورفض المكان، وقد كان مزنر موفقاً في إيصال هذا الخيط الرفيع من موسيقاه المتأرجحة بين الغرب والشرق، وكان اختيار فكرة تنفيذ الموسيقى على طريقة موسيقى الحجرة بآلاتها الحميمة، ساهم في خلق خامة صوتية أكثر حميمية وأقرب للمستمع مما لو كان تسجيل الآلات منفردة. فقد خلق هذا النوع من التنفيذ جواً إنسانياً بعيداً عن الكمال، وجمال الحياة يكمن في افتقارها للكمال، والجمال في المثالية يكمن في (محاولة الوصول لها فقط)، وبيروت تتورط في شيء من هذا أحياناً.
وتأتي آلة البيانو في كثير من المشاهد لتفرش نوعاً من الألم المكبوت في حياة أبطال الفيلم من جهة، وحياة بقية الشخوص في عمق الكادر الإنساني المسكوت عنه من جهة أخرى أما القانون فقد كان بمثابة سكر البنات لأبطال هذا الفيلم. وإذا تأملنا الأغنيات التي تخللت الفيلم التي قامت بأداءها رشا رزق فقد اختزلت كل الأنوثة التي في الفيلم من خلال كلمات في منتهى الشفافية قامت بكتابتها تانيا صالح ورودني حداد وصاغ اللحن لها خالد مزنر أيضاً.. حيث التناغم بين اللحن الشفاف و المفردات التي تمثل حياة البنت والتي تتقاطع مع حياة الصالون النسائي وأحلام الفتيات في الذهاب الى الكمال، كان ذكياً ويكمل الصورة التي ارادتها لبكي..