قراءة في موسيقى الآخر 4
في تجربة مختلفة استوقفتني في قسم موسيقى العالم في إحدى المحلات الموسيقية، ففي هذا العمل يذهب مجموعة من الفنانين من ثقافات مختلفة الى إقامة حفل موسيقي غنائي في مدينة نانتري الفرنسية. حيث اشترك عازف الناي التركي المتألق قدسي إيرغونير مع عازف الكونترباص الفرنسي رينود غارسيا فونس، وعازف العود المصري من أصل أرمني جورج كازازيان، الذي تألق منذ نهاية السبعينيات في عمله مع أهم مخرجي السينما المصرية مثل شادي عبد السلام وكمال الشيخ ومحمد خان، ويشارك في هذه الأمسية المختلفة أيضاً كيفان شيميراني عازف الزرب الإيراني، وهو أحد العناصر المهمة في مجموعة شيميراني انسامبل الموسيقية، وله مشاركات مهمة في دمج الثقافات الموسيقية وطرحها في أمسيات مميزة. ويتألق عازف الجيتار الإسباني بيدرو سولير، الى جانب المنشد التركي يوسف بيلغن، ومغني الفلامنكو الثائر بيبي دي غرينادا أو (بيبي الغرناطي).
هذه المجموعة الملونة بألوان الثقافات والموروثات النغمية المختلفة، تجتمع على خشبة المسرح الفرنسي، لتقدم نسيجاً من الحواريات الموسيقية، التي تثبت بأن الموسيقى لا تعرف وطناً، وأن فن التقمص موجود في الموسيقى، فقط عليك أن تصغي للآخر لتعرف أسراره ومفاتيحه، والإصغاء هنا هو الأداة الأهم في هذه الأمسية الموسيقية، فنلاحظ الحواريات المتجانسة المكتوبة حيناً، والمرتجلة أحياناً بين الآلات والأصوات، حيث يعرف بيبي كيف يقطع الطريق على بيلغين وسط تجلياته الصوفية، ليطعن بكلماته الثائرة سكينة اللحن التركي، فيستل مقامه الغجري.
وتجلى أيضاً في هذه الأمسية عازف الكونترباص الفرنسي رينود غارسيا فونس، الذي أضاف وتره الخامس لهذه الآلة الرباعية الأوتار، كي يتيح لنفسه فرصة أكبر في تقديم هذه الآلة كآلة منفردة، قائمة بذاتها، وليس كما يقدمها المؤلفون الآخرون كآلة مصاحبة، فما إن يحتضن آلته حتى ينهال علينا بسيل من الألحان كأنه يفصح عن مكبوتات طال انتظارها. فنرى دوره بارزاً في هذا العمل حيث يستحضر المقامات العربية مثل مقام الحجاز والحجازكار، فكان يحاول (وبنجاح) الدخول في تفاصيل مقاماتنا الحميمة والخاصة بجرأة كبيرة، والذي كان يوقظ هذه الجرأة فيه، هو الصوت الجامح ليوسف بيلغن الذي يستفز الشرق كله بصوته المتمكن والمشحون بالإثنية، فوجد غارسيا فونس الحرية في عبور تفاصيل الشرق من غربه. ثم وجد في الفلامنكو مكاناً غنياً بالنغمات التي ابتكر لها طريقة عزف مختلفة بقوسه الحنون والعنيف في نفس الوقت.
أما قدسي إيرغونير الذي نسج وسط هذا التنوع اللحني جواً صوفياً، فرش من خلاله للمغني بيلغن بساطاً يطيب له التمرغ فيه، بين مقاماته الباكيه القريبة من النوح. ففي صوت الناي الغليظ نوعاً ما لو قارنا بينه وبين الناي الشرقي الذي يستخدم في الموسيقى العربية، فيه شجن واضح، ويأخذك بسهولة الى الحزن المكبوت فيك دون أن تعلم، خصوصاً إذا توجه بك قدسي الى مقام الصبا برؤيته التركية.
وفي هذه الأثناء يواصل العود والجيتار رسم الطريق وإضاءة الألم الذي يصبغ المكان طوال الحفل، والزرب يدخل ليأخذنا الى سمرقند وشيراز حيث الضربات السريعة لأصابع كيفيان شيميراني تصور لنا الفسيفساء الفيروزية التي تملأ جدران بلاد فارس برسومها الحالمة.
وفي عمل آخر للمؤلف وعازف الجيتار الإسباني خوان كرمونا بعنوان (سواحل) نستمع اليه وهو يزاوج بين جيتاره الغجري وآلات مصر كالعود والكوله والناي الى جانب آلات الإيقاع كالمزاهر والدفوف والطبلات، فنرى جيتاره في محاورة مع الأوركسترا الوترية الصغيرة وهي تعزف الألحان الغجرية بإيقاعاتها المركبة يصحبها غناء غجري في نسيج متناسق، عندها يدخل الرق في جو غرائبي أشبه بسرد حكايا الف ليلة وليلة، حيث الطقس الموسيقي ينادي غرناطة و قرطبة في لحن عربي بروح إسبانية، مؤلفات أبدعها كرمونا كخريطة يقترحها في رؤيته لموسيقى الآخر، والآخر هنا يأتي من الخارج والداخل بالنسبة لخوان كرمونا، فالتاريخ المشترك للإسبان والعرب يتقاطع في بعض المراحل، فنراه أحياناً يحاور مقام البياتي والحجاز، حيث الشام ومصر، ثم يذهب عميقاً الى جنوب القارة السوداء، ليدخلنا في متاهات السلالم الخماسية، وأصوات الغناء الأفريقي تغوص بحرارة الجسد النابض بإيقاع الحياة الذي لا ينتهي. تطفر النغمات وكأنها شرارات تستفز حدود الجسد. عمل لا يكفي الكلام عنه، فالأهم والأجمل هو الإصغاء، فكلما أصغيت لموسيقى الآخر، ذهبت في رحلة لا يشبهها شيء.