علي الشرقاوي.. حبٌ على شكل قصيدة
بقلم: محمد حداد
عرفته وأنا اتهجى معرفتي بأبي! كان يمثل لي الثقة والأمل، يشعل القناديل لي ويصرخ فيّ (لا تتردد.. فغداً سيكون الوقت متأخراً)، كان يشرح لي (وأنا مسحور بالموسيقى) كيف أعزف على العود ولا أعزف عنه، وكنت أفهم عليه لأن درسه لي لم يكن موسيقياً، بل إنسانياً.. عينه على تجاربي الصغيرة ويده على قلبه الكبير، يحمل همّ كل من يراه ومن يسمع عنه، لا يرتاح إلا إذا نام حيث يبدأ قلقنا.
شخص يعرف لغة الأطفال و يفهم آلام الشيوخ، يسرد أحلام الصبايا، يكتب شعراً فنغنيه.. يكتب ألماً فنغنيه، فشعره حاضر في كلامه حتى وهو يسألك: أصب لك شاي؟ هذا السؤال الذي لازمه حتى كدنا نغنيه كي يكتب غيره! ذهب بحماسة الشباب الى أقصاها، أشعل جمرتهم الباردة واستفز بقايا أحلامهم البائتة كي ينهروا مخيلاتهم ويشحذوا الوقت بالعمل، حيث أقنع نصف الشباب بأنهم مغنون، وجعل النصف الآخر يكتشف موهبته في التلحين، نثر قصائده بينهم ووزنها، كي يختاروا منها ما يشاؤون، كاد أن يلحّن معهم الأغنيات إلا أنه لم يدوزن عوده و (أوتاره) أبداً.
يمنح الأمل لمن يطرق بابه، مخفور بامبراطورية الفاء، لكنه يجد في النون عرشاً يليق بعزلته، فهو بين الفاء والنون يجد الفن كلّه. ملَك الحرف من حرفيه، ذهب الى البحر حتى تنفس رئتيه، لم تثنيه مواسم القحط عن سماع الرعد، رافق ضاحي بن وليد في تقاسيمه، وكتب مزاميره الثلاثة والعشرين كي يصغي للمغنّين، خط مخطوطات بن اليراعة على مائدة القرمز، حيث تناثرت أوراق ابن الحوبة من كتاب الشين. لم تأخذه الفصاحة عن دارج اللغة، فلم تسعفه سواحل صيف في حواره مع شمس الروح، فخط مواويلاً تَسَعُ بر وبحر اللغة، ليقتني أصدافاً و لولو ومحار.
وهو يدخل في اللحن
أغوته الأغنية فذهب بها الى المسرح والتلفزيون، كتب التاريخ أغنية، والألم أغنية، قال عن جزيرتنا (يا ويلها ديرة)، وقال للصديق (إنت قلبي وآنه قلبك)، ورفع رأسه (بالبيرق المرتفع)، وسألنا السؤال الكوني (شنهو الوطن؟ مو صخرة سوده أو تراب؟ شنهو الوطن؟ مو نخله خضره أو كتاب؟)، صاغ لعذاري وللخور أعمالاً تليق، وأغنيات تنهض بالتراث.
أما عن مشواره مع الأغنية الحرة التي أتقن صياغتها كما يُرسم الوشم في كتف التجربة، فشخص مثله يملك قاموساً من الكلمات التي تحمل رائحة البحر وطعم الفقر، فيتفنن في صب صليل الوحدة التي جعلته يكتب (يمكن يكون لونك حزن.. يمكن يكون صمتك كلام) وهو يهدهد المحمدي في صورته النضالية بين ظلال الحديقة وظلام الزنزانة، وما جعل هذه الكلمات تبلغ أقصى نبيذها، لحنٌ اقترحه خالد الشيخ كي يساهم في ضياعنا بين التآويل، فقد تنبأ الشرقاوي مبكراً أن الشيخ سيكون نديماً طويل السكرة بما له من الحان فيها لوناً يشبه نبيذ كلماته، فتولدت بينهما تجارب منذ (بيني وبينه بحر والسفر اشطوله.. ياطيور ضحك الفجر في الظلمه روحوله.. مسحوا عذاب جسده وعن حالي احجوا له) مروراً بـ(إضحك يا صدر فوق البحر عالي .. وشقق بالفرح إللي جرح حالي).
وأقف عند أغنية (سافر) التي تمثل بالنسبة لي وقفة مميزة في التقاء الأفكار بين الشيخ والشرقاوي، فكلمات هذه الأغنية كتبت بعد ولادة اللحن الذي صاغه خالد وهو مسافر في إحدى رحلاته، فعندما عاد أسمعه للشرقاوي الذي صاغ له كلمات تليق بلحن جريء ويحوي نقلات غير مألوفة بالنسبة للفترة التي اشتغل عليه الشيخ فيها وهي بين 1985 و1986، وتعامل خالد مع هذه الكلمات بذكاء حيث استفاد من التفعيلة الموسيقية التي مكنته على تحريك الأبيات كما يشاء، وخطورة تجربة مثل هذه عادة يخفق فيها الشاعر أكثر من الملحّن، حيث يتخلى الشاعر عن كثير من الحرية النصية كي يلتزم بتفعيلة اللّحن، لكن النص الشعري في هذه الأغنية كان مؤثراً بدرجة كبيرة تدل على شفافية الشاعر (وأنا هنا لا أتكلم عن رأيي في القصيدة أدبياً حيث لا أجرؤ)، وتتواصل التجارب بين الثنائي (الشرقاوي والشيخ) لدرجة أنه في بعض الأغنيات يساهم الشيخ في كتابة القصيدة مع الشرقاوي مقترحاً ابياتاً تتجاوز بكثير ما يسمى تصرّف الملحّن وقت التلحين، وهذا يعطي صورة واضحة عن مدى فهم الشيخ للتراكيب الشعرية التي ينتهجها الشرقاوي.
رسم الشرقاوي و الشيخ معاً شخصيتنا البحرينية بين ثنايا أغنياتهما، حيث ركبنا معهما (شراع الهوى) بكلمات تصف العشق المتمرد ولكن بخجل حيث (لا بندر يوقفنا ولا مينا... مثل طيرين نتريق غناوينا.. واحنا ثنين ثالثنا الهوى فينا) حيث لا وجود للشيطان في حضرة اثنين أصابهم العشق الى هذا الحد. يعرف الشيخ كيف يُلبس كلمات الشرقاوي ألحانه وكأنما لديه أدراجاً خاصة من الألحان متأهبة لقاموس الشرقاوي، فطعم اللحن الذي ينسجه الشيخ مع كلمات الشرقاوي يختلف عن كل الألحان التي يكتبها بكلمات شعراء آخرون. اجتاحنا علي الشرقاوي من كل صوب حيث نثر كلماته في زوايا حياتنا، حتى وصل الى منتهانا. عند حضور شخص مثل علي الشرقاوي نبدأ السرد ولا نكفّ.