تسألنا أيها المجنون .. وردة في كأس الموسيقى
بقلم: محمد حداد
عندما نتكلم عن أغنية "تسألنا أيها المجنون" سيكون ظلماً أن نقارن بينها وبين الأغنيتين اللتين تضمنهما عمل وجوه "تسألنا الأرض" و "بلادك أيها المجنون"، فقد ارتبطنا بهاتين الأغنيتين عاطفياً بسبب العمل الصوتي والبصري والموقف الذي تم طرحه في هذا العمل الذي ضم مجموعة من الأسماء الجريئة حقاً، وهذا الظلم في اعتقادي طال أيضاً (مكان آمن للحب، الباب، وصباح الليل)، فمن غير المعقول أن نقارن بين توزيع الأغنيتين قبل مايزيد على العشر سنوات بآلات الكيبورد (الإلكترونية) وبين الرؤية الجديدة للآلات الحية، ففي السابق اضطر الموزع البحريني المبدع ياسر البناء مع خالد الشيخ التنازل عن كثير من الرؤى الموسيقية لأسباب كثيرة منها الإنتاج المتواضع للعمل ككل (بما فيه تسجيل القصائد بصوت أدونيس، الأغاني، المعرض و العمل المسرحي). لذلك قام الشيخ بإعادة تنفيذ مجموعة من الأغاني لإرضاء ذاته الموسيقية التي تستفزه من وقت إلى آخر كي يتيح لها مجالاً للتمرد على القوالب الغنائية المعتادة، فأعاد توزيعها بالتعاون مع الموزع المصري أشرف محروس الذي طرح رؤيته الخاصة في تنفيذ هذه الأعمال.
مغامرة بين خبايا النص و اللحن و التوزيع
تبدأ الأغنية بالسلم الكبير الهابط جالباً معه الفرح الطازج للأرض التي تثق بأبنائها و تصدق وعودهم!! ويدخل صوت خالد متمازجاً مع هدى في فرح حيث الأرض تسأل وهي مبتهجة عن العرس الموعود!! يباغتهما صوت الكورال بجملته الغنائية (فنتلعثم ونختلج) تتبعه الوتريات بعزف السلم الكروماتي بطريقة النقر المتقطع بالأصابع (Pizzicato) وهذه الطريقة في العزف توحي بالتردد والارتباك، أما في مقطع (أفواهنا مملوءة بالتراب) الذي لحنها خالد على مقام يلمس مقام الحجاز بمسافته الثالثة (الزائدة) التي تصبغه دينياً، والتي أعتقد بأن محروس قرأ اللحن على أنه امتداد للسلم الكبير فوضع هارمونيات بعيدة عن جو الحجاز، مما أدى إلى ربكة موسيقية نوعاً ما ولا أعتقد بأن خالد كان يريد هذا النوع من التنافر اللحني. لكن بعد جملة (هل كنا نقبل الأرض) عزفت الوتريات الغليظة تآلفاً بإيقاع مضاد لإيقاع الأغنية أو ما يسمى (Offbeat) وهذا يعطي رهبة لكلمة الأرض التي توحي بكثير من الصور منها الموت والخجل والرعب. وفي المقطع الذي يشترك فيه الجميع بطلب الصفح والمغفرة من الأرض، يدخل الإيقاع مدعماً هذه الصلاة التي لحنها خالد على لحن فيه لوعة ورجاء من اعتاد طلب المغفرة لكثرة الأخطاء، والكمانات كانت تؤكد على كل جملة يقولها الكورال بحوار متناسق إلى أبعد الحدود.
وعند نهاية المقطع الكورالي (صرخات الذعر) الذي كتبه خالد على نغمات التآلف الكبير بإضافة نغمته السابعة ثم التاسعة مما يزيد الشعور بالخوف الصارخ، فكان ذروة الفكرة المرتبكة في القصيدة.
أما الجسر الموسيقي المؤدي للحالة الثانية من الأغنية والذي يعتبر افتتاحية أو تمهيد لمقطع (بلادك أيها المجنون) كان هو نفس السلم الكبير الهابط في بداية الأغنية لكن يعاد مرة بشكله الأصلي ومرة على شكل سلم صغير بسرعة أكبر تتناسب مع سرعة هذا المقطع، كان جسراً ضعيفاً في رأيي، حيث أن نغمات السلم الكبير تصنع حاجزاً بين المقطع الأول الذي انتهى بكلمة (الذعر) المشحونة بالرعب لحناً ومعناً، وبين المقطع الثاني الذي يفضح لنا ماهية البلاد وحقيقتها. فلو اقتصر الجسر على السلم الصغير، لكان تأثيره أكبر أو اقرب على الأقل.
الجميل في هذا المقطع هو التنوع في أداء جملة (بلادك أيها المجنون) وتبادل الأدوار بين خالد، حسام، وهدى.. فيبدأ صوت خالد في طرح رؤية قاسم حداد للبلاد، ثم يدخل حسام بصوته الحكيم قائلاً نفس الجملة وكأنه التاريخ يؤكد ما قاله خالد، وأشرف محروس ذكي هنا (كعادته) في التعامل مع الصمت الذي يقترحه خالد الشيخ في المسافة الزمنية بين (بلادك أيها المجنون) و (ساحة حربك الأخرى) حيث نسج فيها جملاً للكمانات فيها سرد كثير وكأنه يكمل ما قاله قاسم من كلام مربك، حيث البلاد ساحة حرب وخطيئة جميلة، ومجنون من لا يعتبرها كذلك!! فقد تميز خالد هنا بوضع هذه السكتات كي يضفي عليها أشرف رؤيته الخاصة، تدخل بعد ذلك هدى برشاقة صوتها وكأنها تفضح لحبيبها الفارس الذي عاد للتو من حربه ليستريح بين أحضانها وتباغته بغنج أنه ترك ساحة الحرب الأولى ليأتي إلى الساحة الأخرى للحرب الأعظم.. البلاد.
ومن اللمسات اللذيذة والساخرة التي وضعها خالد في هذه الأغنية، هي إعادة الجملة الأساسية ولكن بهذا الشكل (بلادك أيها الـ.....) حيث يترك لك فسحة لاقتراح مايحلو لك من الصفات التي ممكن أن تستفز بها من لا يؤمن برؤية حداد والشيخ.. وأعتقد بأنها صفات لا تحصى!! وعن مقطع (قاتل وانتظر، واهدأ) يأتي بعد كلمة (انتظر) عزف مرتعش بالأقواس على الوتريات (Tremolo) وكأن الوتريات تحث المقاتل بأن ينتظر وهذا تفسير ذكي من أشرف محروس للحن والكلمة.
يتغير الجو العام للأغنية بعد كلمة (واهدأ) فتسرد هدى عن الكأس والوردة والجسد الذي اختار الموت!! وكل هذه الرموز تجعلنا نشك بأن قاسم حداد هو امتداد لفرسان الهيكل الذين وهبوا نفسهم لحماية الكأس المقدسة والوردة التي حملت في أحشائها البذرة المقدسة وجسد المسيح الذي اصطفى موته كي نقع نحن بين شفرات دافنشي وتأويلات دان براون و أمبرتو إيكو المربكة!!
ثم يعود بنا الشيخ مرة أخرى إلى جملته الاستفزازية (أيها الـ...) يتبعه حسام بجملة (أيها المجنون) مدعياً أن خالد كان يقصدها.. لكن أشرف أنهى المصاحبة اللحنية على التآلف الأساسي و نغمته السادسة مما يعطي قفلة مفتوحة أو ناقصة، وكأنه يقول (أيها الـ..) لكن بالموسيقى.
هل أبدأ في قول رأيي في الأغنية الآن؟ أعتقد بأنهم قالوا مالا يقال.. فشكراً لكم أيها الـ... .