top of page
  • محمد حداد

كيف نذهب إلى موسيقاهم؟


يستبدلون الإيقاع.. للإيقاع بنا!!

لأن الموسيقى العربية تعتمد على المقامات الموسيقية (Moods) أكثر من السلالم الموسيقية الكبيرة والصغيرة (Majors and Miners Scales) أدى ذلك إلى تميزها كرفيقاتها من موسيقى الشرق بين أنواع الموسيقى في العالم. لكن (وكجميع التوجهات الموسيقية المعاصرة) حاول الموسيقيون العرب الذهاب إلى الثقافات الموسيقية الأخرى في تنفيذ أعمالهم ويتمثل ذلك في محاورتهم للموسيقى الهندية والأفريقية، موسيقى الشرق الأقصى، اللاتينية، الأسبانية، إلى جانب التركيبة الأوروبية والأمريكية، كي يحققوا انتشاراً اكبر في الأوساط الفنية وكذلك في الأسواق التجارية، لكن دون أن يفقد اللحن العربي خصائصه وقوالبه الكلاسيكية (Forms Classical) أو كما يحلو للبعض أن يقول (الطابع العربي)، وهنا تكمن الكارثة.


فكثير من التجارب الموسيقية والغنائية العربية (لئلا نقول جميعها) لم تكن موفقة في اختراق الطابع الموسيقي الغربي بل في أغلب الأحيان يسيران بشكل متوازي، وهذا ليس الهدف من حوار الثقافات الموسيقية (على الأقل حسب اعتقادي الخاص) ففي بعض الأغنيات يكون اللحن (Melody) في منطقه بعيدة تماماً عن التوزيع الموسيقي (Arrangement) الذي من المفترض أن من خلاله (اقصد التوزيع) يتبلور المزج بين الثقافتين الموسيقيتين، فنرى الموزع الموسيقي يعمل جاهداً على ربط أفكاره ونسج الخيوط اللحنية التي لابد أن تجد لها خيوطاً متوافقة معها في اللحن الأساسي لتكونان معا الفكرة الوليدة التي تمثل تلاقي الثقافتين الموسيقيتين، ولكن دون جدوى!


لكي أوضح ما أقصد سأذكر مثالاً بسيطاً مما نراه يحدث عند بعض الفنانين العرب، فإذا أراد مغني من الخليج أن يقدم أغنية على النمط الإسباني مثلاً، فإنه فقط يستبدل الآلات الإيقاعية الخليجية واللزم الخليجية (Motives) بآلات الجيتار الإسباني وهي تعزف التآلفات الغجرية المتواصلة فيما يظل اللحن على شخصيته الخليجية لا يجرؤ أن يتحرك ولو قليلاً عن أبعاده التقليدية، فنستطيع أن نستبدل الآلات الإسبانية بالإيقاعات الخليجية في أي وقت دون أن نخدش الطابع اللحني، وهذا ما يحصل فعلياً إذا قام المغني بغناء أغنيته في (جلسة) غنائية، كل ما يفعله هو أن يقدم الأغنية كما هي ولكن بالإيقاع الخليجي الأصلي الذي تم تلحين الأغنية عليه في الأساس وتم استبداله عند توزيع الأغنية فقط!! أنا أظن (مع أن بعض الظن إثم) أن هذا ليس تطويراً حقيقياً للموسيقى العربية ولا محاورة للفنون الأخرى، فالمحاورة في الكتابة الموسيقية يجب أن تبدأ من التلحين، والجرأة يجب أن تكون في اللحن أولاً... ثم في التوزيع الموسيقي.



إذا أخذنا مثالاً آخراً كأغنية (يا حبيبي تعال الحقني) التي غنتها الفنانة العاشقة أسمهان من الحان مدحت عاصم، والتي نلمس فيها التمازج بين الأداء العربي واللحن الذي يطرق باب الموسيقى اللاتينية بجرأة خصوصاً في تلك الفترة، والتي تبعد حوالي ٧٠ عاماً عن اليوم!! فهذا لحن عربي لكنه يحوي صبغة اللحن اللاتيني في أبعاده وتقطيع جمله، مما يجعل التوزيع الموسيقي ينسج خيوطه بارتياح تام وهذا ما نراه واضحاً في الجمل التي تسردها الوتريات وحيدة في الفواصل الموسيقية، وفي نفس الوقت تتجلى أسمهان بالأداء الشرقي الذي يشاكس الأداء اللاتيني بأسلوب ذكي يحوي الأسلوبين معاً. أغنية مثل هذه تعتبر علامة واضحة خصوصاً في التوزيع الموسيقي الذي يتداخل مع الجمل الغنائية بشكل جديد على الموسيقى العربية في ذلك الوقت.


هناك وجهة نظر تقول بأن الأغاني المصرية أكثر الأغاني العربية انتشاراً سواء على نطاق عربي أو عالمي، وهذه الفكرة ليست خاطئة في حد ذاتها، وأنا شخصياً مولع بمجموعة من الإيقاعات الشرقية (كالبلدي والأيوبي)، وخصوصاً (الوحدة الكبيرة) لكن، لكي يحقق بعض الفنانين نفس هذا الانتشار، أقدم بعض الملحنين الخليجيين بالاشتراك مع الموزعين الموسيقيين الذين هم مؤلفين موسيقيين في الأساس (Composers) إلى إقحام الإيقاع المصري في الأغاني الخليجية وبشكل ساذج جداً في بعض الأعمال، ثم يتلاحق الفنانون الخليجيون على استعارة (الطبلة) المصرية لأغانيهم. ويتضح أن في الشهور الست الأولى من تقديم هذه الأغنية، تحقق إيرادات هائلة كأغنية منافسة في الــ(Chart) الغنائي الخليجي، لكن بعد ذلك لا يقل الإقبال على الأغنية فحسب، بل تنسى بشكل مؤلم للملحن والمغني على حد سواء، لكن هذا الألم لا يطال الموزع الموسيقي، فهو في هذه الأثناء يكون منهمكاً في تسخين (طبلته) لملحن خليجي آخر، فالخلل هنا لايكمن في استخدام الطبلة، لكن في (لماذا الطبلة؟) أو لماذا الدرامس أو لماذا الكاخون... فالإيقاع ليس سكة حديدية يسير عليها اللحن فقط، لكنها عنصر فاعل في الأغنية وله شخصيته التي تشارك في إيصال مضمونها للمستمع.


ومن التوجهات التي تواكب السوق وتبحث عن الانتشار الدائم، إدخال التوزيع التركي على الأغاني العربية، وأنا في اعتقادي (وأعوذ بالله من كلمة: اعتقادي!) أن هناك كثير من التجارب الإبداعية العربية كانت موفقة في خلق هذا المزيج بشكل ذكي جداً لبساطته وشفافية التوزيع الموسيقي التركي وخصوصاً إدخال آلة البزق أو الساز (Saz)، ولكن للأسف بحثاً عن الانتشار والتنافس الشريف الذي لا نعرف قواعده، نرى بعد أسبوع من إصدار أحد الفنانين لهذا النوع من الموسيقى يتهافت باقي الفنانين للتعامل مع نفس الموزع الموسيقي ليستنسخ أغنية شبيهة بالأغنية (الناجحة) ويجب أن تنجح!! ويطلبون الإستعانه بنفس عازف الساز ونفس المهندس ونفس الوتريات. فتجد نفسك محاطاً بعشرة أغاني لكن يحملون وجهة نظر واحدة وكأنها أغنية واحدة.

لكن....

هناك من يعرف الطريق

في الوقت نفسه يوجد موسيقيون عرب يعتبرون أعلاماً لا يمكن تفاديها في بناء هذا الجسر بين الثقافات الموسيقية للوصول إلى شواطئ موسيقية لم تطأها نغماتنا من قبل.


ومن هذه النماذج الباهرة زياد الرحباني (على سبيل المثال لا الحصر).. مؤلف موسيقي وملحن وعازف بزق وإيقاع وبيانو ومخرج وكاتب و.... سأكتفي بهاتين(التسع) ميزتين فقط.. استطاع زياد أن يضع الملامح الواضحة لأسلوب جديد في منتصف السبعينيات وهو الجاز الشرقي (Oriental Jazz) وقام بتأليف نماذج كثيرة في هذا الأسلوب سواء كموسيقى فقط أو كأغاني يكتب كلماتها بنفسه إذا لزم الأمر.


تنوعت الأعمال التي قدمها زياد بين الأوركسترالية والجاز الغربي والشرقي والموسيقى الشعبية اللبنانية إلى جانب الأغاني الوطنية والترانيم المسيحية وأغاني الأطفال. استطاع الرحباني أن يغير أكثر الأذواق رجعية بموسيقاه الجريئة، وأستطاع أيضاً وبجدارة أن يكوّن له أعداءً يليقون به (وبأنفسهم في نفس الوقت). وأنا في رأيي الشخصي، أعتقد بأن زياد من الفنانين القلائل الذين إذا أرادوا أن يقدموا فنّاً معينا سواء قائم على الموسيقى العربية أو الغربية فإنهم يقدمونه بإخلاص تقني وأدبي، وهذا يدل على البحث المستمر في اتجاهات ومدارس الموسيقى المختلفة مع معرفة شاسعة بعلم الآلات الموسيقية و التوزيع الموسيقي، إلى جانب أنهم لا يتنازلون عن وضع بصمتهم الخاصة التي تؤكد وعيهم الكامل بما يفعلون.


وتبلغ ذروة ما أقول عند زياد، في إبحاره الجريء في فن الجاز، و هذا إنجاز (إن جاز التعبير).. فأغنية مثل (في شي بدو يصير) من ألبوم كيفك انت، أو (معرفتي فيك) من الألبوم الذي يحمل نفس الاسم، نستطيع أن نقول بأن هاتين الأغنيتين لا يمكن تصورهما في قالب آخر غير الجاز، فاللحن تلّبس الكلمات بهذا الجو الكئيب من المقامات القاتمة وأتى التوزيع لكي يتوج الألم الكامن في اللحن والقصيدة باقتراح التآلفات الموسيقية التي تأخذنا من تنافر إلى آخر دون أن تريحنا إلى أن تنتهي الأغنية ونظل نحن متأرجحين في التأويل اللحني والكلامي.


كذلك عندما يقدم الفنون اللاتينية يفعل بنا نفس الشيء كما فعل في ألبوم سلمى المصفي (Monodose) في جميع أغاني الألبوم تقريباً، بل وتجرأ في مسرحية (... لولا فسحة الأمل) أن يجعل مجموعة آلات النفخ النحاسي الغربية (Brass Section) أن تعزف مقاماً شرقياً يحوي نغمات ذات 3\4 تون في محاولة لكي يرغم آلات الغرب على عزف نغماتنا وليس العكس، مع أنها ليست المرة الأولى التي تعزف فيها آلة غربية نغمات شرقية؛ لكن لم أسمع موسيقى لمؤلف عربي يفعل ذلك (بمجموعة) كاملة من النحاسيات. وبهذا فإنه يؤكد البيت الشعري حيث يقول لنا (ما أضيق العيش... لولا فسحة الأمل).

وقبل هذا كله في أغنية (اسمع يا رضا) التي غناها جوزيف صقر في مسرحية (بالنسبة لبكرا شو) والتي كانت ملحنة في قالب شرقي تقليدي جداً وبآلات التخت البسيطة، يفاجئك بفاصل موسيقي قصير لا يتجاوز الثانيتين والنصف بالضبط، في الثلث الأخير من الأغنية بآلات نحاسية و درامس يعزفون جملة غربية خالصة!! سيقول البعض أنها كانت أشبه بموسيقى الإذاعة البريطانية حيث أن الغناء في هذه الفقرة يتكلم عن دروس الإنجليزية التي تقدمها ماري في إذاعة لندن، فهي مرتبطة بالكلام، لكنني أرى أنها إشارة من زياد بأنه قادم بأعمال أكثر جنوناً من هذا، كما لو أنه يريدنا أن نتشبث بعقولنا (أو ربما نتخلى عنها) كي نستوعب ما سيفعله.


لو تكلمت عن الرحباني فلن تنتهي الأمثلة التي تؤكد ما أود قوله. لكن لنتكلم عن موسيقي آخر له تجاربه ولكن في مكان آخر من الموسيقى.. عمر خيرت.. استطاع أن يرتقي بالموسيقى الشعبية المصرية وساهم في تطوير الإيقاع الشعبي بآلاته البسيطة ليتلاءم والأوركسترا الحديثة، وزاوج بين الألحان الشعبية التي تغلب على بعضها (أحياناً) صفة الرتابة، والتوزيع الأوركسترالي الغربي بكل قواعده المتحركة من خلال الألحان المتوافقة والألحان المضادة (Harmony and Counterpoint)، وخلق مزيجاً موسيقياً له صفة التحرر من أسر الرتابة الكلاسيكية بالكتابة المبتكرة للأوركسترا الغربية، وفي نفس الوقت يملك صفة الأصالة اللحنية القادمة من الشرق ومصر خصوصاً، وانتشرت موسيقاه بشكل كبير إلى أن أصبح علامة موسيقية تقدم اللوحة الموسيقية الشرقية بألوان غربية وفرشاة غربية. ومن الأسماء الجادة التي مازجت بين الموسيقى العربية والفنون الأخرى هناك أنور إبراهم الذي عانق الجاز بعوده، وظافر يوسف الذي أشعل موسيقاه الصوفية بالموسيقى الإلكترونية، وأسماء أخرى كثيرة وحميمة سنتكلم عنها قريباً، فقط أتمنى أن يظل الباب موارباً، فالتجارب الرائعة لا تنتهي وآذاننا في نهم مستمر..


نلتقي في كلام أدفأ.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page