top of page
  • محمد حداد

شعرية الموسيقى وهي تحاكي موسيقى الشعر


بقلم: محمد حداد


في أكثر من مناسبة يتم الحديث عن تقاطع الفنون مع بعضها وينشب نقاش عارم بين النقاد والمبدعين حول جدوى هذا النوع من التجارب.. ففي الحياة/التجربة ليست هناك قوانين كثيرة تكبل المبدع الحر، فمنذ الألم والمبدع يحاول نسج أعماله الإبداعية التي تعكس وجهة نظره في الحب والحرب والحرية...

لن نتكلم عن التجارب التي تبتعد عن الموسيقى كثيراً، فالموسيقى بالنسبة لي هي أكثر الفنون إغواءً، مما يجعل الفنون الأخرى تحاول مشاطرتها سرير التجربة كي تتولد تجارب تضيف للطرفين مراياً تسعف بكارة التجارب الجديدة.


بشكل خاص يستهويني الحديث عن التجارب الموسيقية التي تتقاطع مع التجارب الشعرية أو النثرية بمختلف أشكالها، فقد صادفت كثيراً من التحقيقات التي تتناول بعض التجارب، ويتم التطرق لموضوع الموسيقى هل طغت على الشعر؟ أم كان الشعر في عزلة عن الموسيقى؟ أسئلة تفتح الأبواب على عواصف فكرية تدافع عن الشعر أحياناً والموسيقى في أحيان أخرى لكن قليلة هي الأصوات التي تدافع عن الإثنين معاً.


ففي اعتقادي أن هناك تجارب متعددة يكون فيها الشعر مجرد فكرة تقدم في بداية العمل تبني عليها الموسيقى أفكارها اللحنية وبعدها ينتهي الشعر لكن يبقى موضوعه حاضراً في العمل الموسيقي حتى نهايته، وأنا هنا أتكلم عن التجارب العربية فقط، ففي الموسيقى الغربية هناك تجارب متقاطعة مع الشعر بطريقة رائعة ومستفزة للشعر والموسيقى معاً لن نتطرق لها هنا، فهي تتلقى (مطمئنة) نصيبها من النقد الأدبي والنقاش خصوصاً انها تطرح في أوساط تتفهم هذا النوع من الجرأة الفنية التي تفتقدها مجتمعاتنا (المخلصة) لكل ما هو تقليدي.


فتجربة مثل تجربة المؤلف الموسيقي ظافر يوسف الذي اخترق كثيراً من الفنون بآلة العود التي تلازمه في أغلب أعماله، لديه كثير من الأعمال التي تسمعه فيها يردد للحلاج أو أي رمز من رموز المتصوفة في بداية العمل بيتاً واحداً من الشعر ثم يسكت الشعر وتستمر الموسيقى مستلمة الحالة الصوفية لهذا البيت، بل أحياناً للقصيدة جميعها دون أن نسمع أي بيت آخر، هنا يمكننا القول (لو رأينا الموضوع برؤية سطحية) أن الموسيقى هي الحاضرة بشكل طاغي، لكن في واقع الأمر فإن القصيدة حاضرة في كل نغمة من نغمات العمل الموسيقي، بل أن العمل الموسيقي بني أساسه على الحالة الشعرية للقصيدة، فلا نستطيع القول بأن فناً طغى على الآخر لاقتسامهما الحالة الوجدانية معاً.


وهناك أيضا تجربة الفنان نصير شمه مع الشاعر أدونيس التي اعتمد فيها رسم مساحة خاصة للقصيدة لتطرح رؤاها والموسيقى تقول ما يحلو لها في مساحتها التي تتقاطع مع الشعر في الموضوع ولكن ليس في ذات الوقت، فنستمع الى أدونيس يقرأ شعره وحيداً وعندما ينتهى يبدأ شمه في نهر أوتاره لتقول شعرها بنغمات تعكس الحالة الملتهبة التي يقترحها أدونيس ولكن في معزل عن الكلام، وأيضاً عندما يتصدى الفنان عابد عزرية (الذي نعرفه كمؤلف موسيقي ومغني) لتجربة مثل ملحمة جلجامش المليئة بفنون السرد والقصص، نراه يحكي الأسطورة بصوته الرخيم دون أي تنغيم للكلام، والموسيقى تتجلى من وراء صوته بشكل يجعلك تشعر بأن هذه الخلفية الموسيقية تشحن الأسطورة غموضاً وسحراً يساهم في توصيل الحالة والفترة التي تمر فيها الأحداث، ونراه في مقاطع أخرى يبدأ في غناء نصوص أخرى من الملحمة، هنا نتأكد أن في بعض الأحيان يكون المشهد أكثر جمالا عندما تحتضن الموسيقى الشعر دون أن نغنيه..


لكن كل هذا لا ينفي كثيراً من التجارب التي قدمت الموسيقى بشكل سطحي و مصاحب سلبي للشعر دون ضرورة، وأقول هنا (ضرورة) لأؤكد ما ذكرت سابقاً أن روح وشكل العمل الإبداعي هو الذي يفرض الدور لكل فن من الفنون المتقاطعة في تجربة واحدة، فليس من الضرورة أن يغلب الشعر دائماً والموسيقى تزينه فقط، ولكن نصادف بعض التجارب الإبداعية التي تقع في إشكالية أخرى، وهي تجارب مشتركة لا يوجد فيها رابط واضح يتفق عليه الشاعر والموسيقي من الناحية الموضوعية من جهة وأدوات التعبير المختلفة حسب اختلاف المدرسة الفنية من جهة أخرى، ونجد هذا في كثير من التجارب الإبداعية العربية، وأعني هنا بالعمل الإبداعي في مختلف صوره.


أعتقد هنا انه عندما يعمل مؤلف موسيقي مع شاعر يختلف عن عمله مع رسام فلا يمكننا القول بأن الموسيقى (لغة) عالمية ترضخ للغة أقل انتشاراً منها سواء عربية أو غيرها، فأنت هنا لا تتعامل مع لغتين في ذات الوقت لكي تقدمان موضوعاً إبداعياً، فالموسيقى بما أنها أكثر رمزية من الشعر فإنها تتحول إلى حالة تساند النص الشعري أو تنسخه حسب الفكرة المطروحة في التجربة وباتفاق الفنانين معاً، لكن ممكن اعتبارها لغة (بالمعنى القاموسي) في بعض الأعمال التي يكون فيها العازف يمثل صوتاً مستقلاً وسط مجموعة من الشعراء أو الممثلين حيث يتاح له فرصة توصيل أفكاره ومشاعره بمعزل عن القارئ الآخر كل منهم يطرح نصه الشعري أو السردي بلغته الخاصة.


إننا نحتاج إلى جرأة موسيقية أكبر كي نتقبل قدرة الموسيقى على التحول المستمر، وجرأة أخرى كي نستطيع محاورة باقي الفنون دون أن نقع في منطقة الصراع بين الموسيقى والشعر أو أي فن آخر.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page