top of page
  • محمد حداد

مجيد مرهون.. صمتٌ وجمرة لا تهدأ

بقلم: محمد حداد


في صمت يكتب موسيقاه، يتنقل بين السوناتات والرباعيات، في البدء رافق آلة الساكسفون عازفاً ثم أصبح مؤلفاً يكتب لما تيسر له من آلات موسيقية، لم يوقفه أننا لا نملك أوركسترا في هذه الجزيرة، فذهب الى جزيرة (جده) ليجد الهدوء الذي لم يجده في القضيبية، قضى سنواته الاربع الاولى وحيداً حيث الصمت فرش له النغمات البكر، ليخرج من وحدته ويقلب كل القواميس، فيبتكر لنا قاموساً جديداً كقنديل ينير نغماتنا الطائشة، ويهذب ألحاننا المرتبكة، قاموس يحمل عبق الوحدة والظلام، يحمل نبيذ التجربة وتفاسير النغم. وجد في الموسيقى وطناً لا يمكن تفاديه، وفي الوطن موسيقى لا يفهمها إلا من ترك أذنه لتآويل الألم والوقت. جعل من سجنه ورشة تليق بمعاجمه المؤجلة، اختار من الأقلام ألواناً كي يكتب مخطوطته الأولى، حيث رافقته لغات القواميس كي تؤكد له تفاصيل الشروح من أصولها اللاتينية فلا يطاله الشك فيما يكتب.


في عزلته التي كادت تطال (الأبد) إلا قليلا!! كان له رفيقين، إقتسما معه لذة الألم وساهما في صياغة زنزانته الوحيدة. صديقان لا يغضبان وكلاهما قليل الكلام. (الهارمونيكا) رفيقته الأولى التي كان يهمس لها أفكاره وهو يتجول بين كهرباء المكان، وعند المساء كان يستعيد معها ألحاناً غير مكتملة، وكان يرتجل الغربة والحرقة لكي يسمعها بقية الرفاق فيهنئون في زنازنهم، فألحانه كانت بلسماً يمسح آلامهم، ويؤكد لهم أن أخطاءهم النادرة مازالت صائبة، وأنهم مازالوا جديرين بها، فصوت مثل صوت الهارمونيكا جعل من جزيرة (جده) مكاناً مليئاً بنغمات طويلة وتآلفات منسجمة مع بعضها تربط الأحلام بالوهم، توقظ (الحنين) وتفتح باب (الذكريات)، فيشهق كل سجين (حبيبتي) فلا نعرف إن كان يقصد المرأة أم الوطن.


أما صديقه الآخر فهو (جوني)، القط الذي لازم كتابته واقتسم معه الوجبات الخجولة، حيث كان لا يأكل إلا ذا أكل جوني.. كبر بين يديه، حيث كان جوني أول من يصغي وآخر من يفهم.. استمع اليه وهو يعزف الهارمونيكا، حضر معه مناقشاته الحماسية مع رفاقه عن الوطن والجرح، نام بين معاجمه وآلاته الموسيقية التي صنعها بما تبقى من بقايا العمل، وعندما كبر جوني وكبر معه المرض، فارق رفقته بطقوس تليق بصداقة صامتة لوّنت حياته كما يلون الطفل بضحكته وحشة الغرفة.


شفيفة هي روحه، فيأسرنا وهو يحيل كل شيء الى نغمات مؤكداً لنا أن الموسيقى هي سر بقائنا، فكتب للأوركسترا أعمالاً مشحونة بالحب، وكأنه قادم من رومانسية العصور السالفة بعذوبتها وتمردها، وصاغ أعمالاً تبعث الدفء في حجرة الموسيقى حيث الرباعيات تسرد والنفخ الخشبي يشهق بنا، فجعل من آلة الفلوت شعلة حمراء، ولم يتردد في ان يفتح البللور على آلة القانون والعود، ساهم في إلباس حزن المواكب ثوباً مطرزاً بآلات النفخ النحاسي والإيقاع التي تجعل الروح حائرة بين الجحيم والجسد.


يسأل عن أخبارك وهو يصرخ فيك كي يوقظ ما تبقى من خجل بين شفتيك، فترتبك روحك لتشعر بأنك ذاهب لاحتضانه. معلمٌ لتلاميذٍ غير جديرين به، ذهب بأعماله الى خارج الجزيرة، وأخبرتنا الأوركسترات البعيدة ما قال لها عن حنينه وهو في الداخل. سيدٌ تنحني له المصطلحات، ويخجل منه أكثر الموسيقيين إدعاءاً، فشخصية نادرة مثل مجيد مرهون لا تتكرر مرتين في جحيم واحد.


فانزعوا طواويسكم في حضرة هذا الشخص المرهون للمجد.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page