يمزج العسل بالرماد.. ظافر يوسف يتخفى في ظلال الآلهة
بقلم: محمد حداد
وأنا أستمع الى إصدار (ظلال إلهية) للمؤلف الموسيقي التونسي المختلف ظافر يوسف، تتجدد دهشتي من هذا المؤلف الذي تجاوز جميع الحدود المقترحة موسيقياً، كي يضفي عليها صبغة روحية تأخذنا مع موسيقاه في سكرة تخاطب الروح، وشطحات متكررة من الصحوات الحميمة، أحياناً يأخذنا بصوت أوتار عوده العراقي الصنع (وهذا جزء من التحريض للنغمة) الى دهاليز ليس لها نهايات واضحة، وفي أحيان أخرى يأسرنا بصوته الصارخ فينا وكأنه يوقظ ما تبقى من عشوائياتنا الساهرة في توهانها، صوته كالدرس الحاسم، الذي نتغيب عنه دائماً متعللين بأكثر الأعذار سذاجة.
يأخذنا في هذا الإصدار الى عوالم مختلفة عما سبق تقديمه من أعمال موسيقية، حيث أن تنوع الخامات الصوتية في هذا الألبوم ساهم في فتح فضاءات جديدة للتأليف الموسيقي، فمن أهم المشاركات في هذا الإصدار هي مشاركة الرباعي الوتري النرويجي القادم من أوسلو، هذه المجموعة التي أضافت لمؤلفات ظافر روحاً جديدة تحوي برودة إسكندنافية، مما يجعل لهيب هذا الألبوم دافئاً بشكل جميل، حيث تفرش الوتريات نغماتها بين مقطوعات الإصدار الإحدى عشر، بشكل لم نألفه مع ظافر، الذي كتب موسيقاه بطريقة مغايرة هذه المرة، حيث أسهب في صياغة التآلفات الطويلة النغمات، وهذا جديد على ظافر، الذي اعتاد العمل مع عازفين منفردين كل بآلته الوحيدة، وكان ينسج حينها تآلفات متنوعة الخامات الصوتية.
أما في عمله مع رباعي أوسلو الوتري فهو يتعامل مع نسيج واحد من الخامة الصوتية البوليفونية، مما جعله يتناول موضوعاته اللحنية بذكاء كبير، وأكثر احترافاً، فأتاح لنا بذلك اكتشاف منطقة جديدة عنده في كتابتة للوتريات، ففي مزجه لموسيقى تونس التي تحوي الطقس الإيقاعي بثقافتها المليئة بالطلاسم والتعاويذ التي يرتجلها بصوته الذي يشبه الصحراء بكثبانها الذهبية، ممزوجاً مع جرأة موسيقى الجاز بإيقاعاتها المتمردة ومقاماتها الباحثة عن الصواب دون ان تجده أبدا!! ويتخلل كل هذا جو من النغمات المسحوبة بأقواس الرباعي الوتري، يأخذنا الى الصقيع أحياناً لفرط خامة بلاد النوردك.
وفي المقطوعة الموسيقية التي تحمل عنوان (عسل ورماد) يذهب ظافر الى مكان مليء بالغموض، حيث يتكون هذا العمل من ثيمة لحنية واحدة فقط، يبدأ العود وحيداً وكأنه يبحث عن مقامه بين النغمات الى أن يرتاح في مقامه الذي يحاكيه لبرهة، حتى تظهر الثيمة الرئيسية في الطبقة الحادة للعود بخجل، ثم تعاد مرة أخرى في الطبقة الغليظة لأوتار العود، مع انسياب خفيف للوتريات وكأنها أشعة شمس حميمة وهي تنسل من بين ستائر الغرفة ومن بين نهاية الباب وأرض الغرفة الخشبية، ثم مع دخول الإيقاع الذي يشبه الإيقاعات السلتية القادمة من ويلز وسكوتلانده من جهة وتحوي ملامح الطبل الإسكندنافي من جهة أخرى، تستمع الى ضربات توقظ الملاك وتضرم النار في صقيع البيت بحنان الأم الوحيدة.
صور تتناثر عليك وأنت تصغي لهذا العمل المتنوع في خاماته القادمة من ثقافات تربط شمال إفريقيا بشمال أوروبا، يذهب بنا ظافر يوسف في هذه الرحلة الغامضة، وكأنها صلاة لاتنتهي ولا يسمعها كائن، وضربات الطبل وهي تتصاعد في السديم، وكأنها تستجدي المطر كي يهطل فينا، والوتريات تتجول في دهاليز المقطوعة وكأن أروقة اللحن مشرعة أبوابها لرياح الرباعي الوتري كي يعطر قدسية هذه المقطوعة، والعود يعود باللحن وحيداً في كل مرة الى أن يتلاشى.
وفي هذا الإصدار أيضاً نلاحظ جرأة يوسف في بناء الألحان الشرقية بصوته، والتي تعتمد على النغمات ذات الثلاث أرباع تون، وهي نغمات تتميز بها موسيقى العرب والأتراك وبعض الإثنيات الأخرى التي تتقاطع معنا في الألم نفسه، مما يؤهلها الى الحصول على هذا النوع من النغمات بسبب الحزن المفرط. فأسهب ظافر يوسف هنا في سرد الألم بنغمته المميزة مع تآلفات غربية تقوم بها الوتريات حيناً مع آلة الباص. الى جانب الحضور الغاشم للإيقاعات الأفريقية وغيرها مما يجعل النبض أكثر صدقاً وتوهجاً.
وفي صوته الذي لا ينتهي لا ينتهي الحزن، فأينما يضع حنجرته تتفتح الجراح ولا تندمل، أحياناً نسمعه يبوح بالطلاسم التي لا يعرف معناها إلا الآلهة، وفي أحيان أخرى يسرد لنا أبياتاً من أجمل الشعر وأكذبه. يترنم بصوت دافئ يسلب الشغاف من النغمة الأولى ولا يتركنا إلا عندما يتأكد بأن الثمالة تمكنت منا، والدهشة تتناثر في المكان.
عمل لا يمكن تفاديه.