قراءة في موسيقى الآخر 5
(السلم الخماسي في يد فيليب غلاس)
إستمعت الى عمل في بداية التسعينيات بعنوان (باسيجس) أعتبره من الأعمال التي فتحت نافذة موسيقية جديدة ومؤثرة في تاريخ الموسيقى المعاصرة، حيث أن هذا العمل جمع بين مؤلفين يعتبران من رواد الموسيقى في هذا العصر، كل في حقله الموسيقي المستقل، والبعيد كل البعد عن تفاصيل موسيقى الآخر، فعندما يلتقيان هذين القطبين في عمل واحد، فهذا يعتبر مكسباً للحركة الموسيقية المعاصرة، وإضافة جديدة للحركة النقدية المتخصصة في هذا النوع من الفنون المجرده.
المؤلف الأول هو الأمريكي فيليب غلاس الذي يعد من مؤسسي حركة المينيمالزم الموسيقية، وهي مدرسة ظهرت في منتصف ستينيات القرن الماضي حيث اتجه بعض المؤلفين آنذاك الى استخدام أقل ما يمكن من النغمات في أعمالهم الموسيقية، و إذا كانت أعمالهم غنائية فالنصوص الشعرية المغناة تحوي كلمات قليلة ومكررة، قليل من الأفكار اللحنية، وكثير من التوزيع الموسيقي، فالرؤية عند هؤلاء المؤلفين أعمق بكثير مما تبدو عليه. و لفليب غلاس كثير من التجارب التي تثبت هذا الكلام، الى جانب تجاربه التي تبين مدى جرأته في الذهاب الى موسيقى الآخر، حيث كتب موسيقى الفيلم الياباني (ميشيما) الذي يتناول أربع مراحل من حياة الشاعر والروائي يوكيو ميشيما، فنراه يذهب نحو موسيقى الشرق الأقصى ويتناول أفكاره الموسيقية من ثقافتهم ليمزجها بمدرسته التجريبية. كما كتب موسيقى فيلم (كاندون) الذي أخرجه مارتن سكورسيزي، والذي يتناول حياة الدالاي لاما الرابع عشر، حيث دخل غلاس الى التبت والديانة البوذية برتابتها وسكينتها التي تستعمر سقف العالم، ويحاول محاكاة ألحانهم بآلاته التي تتشابه علينا الحانها لفرط الرتابة أحياناً.
أما المؤلف الآخر الذي شارك غلاس في هذا العمل الجريء، فهو عازف السيتار الهندي الراحل رافي شانكار الذي يعد من أهم مؤلفي موسيقى الراغا التقليديه، فهذا المؤلف يعتبر أستاذاً لكثير من الأجيال الموسيقية في الهند وخارجها، فقد ألهم الكثير من الشباب في توجهاتهم الفنية في العزف والغناء، وحتى في الرقص التقليدي الهندي والباليه، فأعماله الموسيقية جابت العالم كله، وهو أب لمغنية الجاز الأمريكية نورا جونز، وعازفة السيتار الهندية أنوشكا شانكار، وقدم شانكار مؤلفات لآلة السيتار والأوركسترا في محاولة منه لإدخال هذه الآلة الى الوسط الأوركسترالي، وذهب في تجربة أخرى مع عازف الكمان (يهودي منيوين) الذي ولد أمريكياً من والدين روسيين التقيا في فلسطين ويعتنقان اليهودية، حمل الجنسية السويسرية، ثم انتقل الى الجنسية البريطانية، الى ان مات في نهاية التسعينيات، فهذا العازف المتنوع الجنسيات المشحون بالخبرة اللحنية، كان من أهم عازفي الكمان في القرن الماضي، وفي تجربته مع شانكار الذي كتب له كونشيرتو للكمان والسيتار بمصاحبة الأوركسترا، رسم شانكار خيطاً يربط القوانين الكلاسيكية مع الطقس الهندي، وفي تعاون أخر بينهما، كان إصدرا بعنوان (الغرب يلتقي بالشرق) وهو مجموعة من الأعمال المشتركة للآلتين مع مصاحبة بعض الآلات الهندية والغربية.
كل هذه التجارب الغنية التي مر بها فيليب غلاس ورافي شانكار قبل ان يلتقوا، منحت تجربتهما معاً معناً أكثر عمقاً في إصدارهما (باسيجس أو ممرات)، الذي يقترحان فيه كل الطرقات الذاهبة الى موسيقى الروح وإيقاع الجسد، فبين دهاليز هذه الطرقات نلمس جرأة فيليب غلاس في محاكات الألحان الهندوستانية ذات النغمات الخمس، والإيقاعات المركبة والمكسورة التي سيتند عليها شانكار (عراب موسيقى العالم) كما أطلق عليه عازف الجيتار الإنجليزي وعضو فرقة البيتلز جورج هاريسون الذي تعلم عزف السيتار بسبب رافي شانكار.
يدخل غلاس في حوار مع أوركسترا الحجرة التي تتمثل في الوتريات القاتمة والغليظة في أغلب الأحيان، تقودها آلة السيتار بنغماتها المتقطعة والباكية بأنامل رافي شانكار الدامية المستحيلة، ثم نراه في بعض الأحيان يصغي الى الإيقاع الهندي في لهاثه الموزون على جمرة الوقت، محروساً بباقي الوتريات المعشقة بالبهار الهندي مقاماً وتقنية.
برع فيليب غلاس أيضاً في كتابة ما يشبه هذه الثقافة التي تمثل له الآخر الغريب، لكن يظل الأغرب هو دخول آلات مثل الساكسفون والترومبيت وسط هذا الطقس النادر من النغمات الإثنية، الي لا تحتمل هذا النوع من الآلات، لكن بذكاء غلاس وشفافية شانكار، إستطاعا معاً فرش مايليق بالتوجهين الموسيقيين، حيث يأخذ كل منهما دوره كاملاً في صياغة المشهد الموسيقي كما يحلو له، ودون أن نشعر بأن هناك آلة دخيلة.
عمل مشحون بالثقافة والإحتراف واحترام العقل والذوق، فصعوبة هذا النوع من الأعمال تكمن في الرؤى التي تحتضن هذه التجارب من قراءات وبحث مستمر في الكتب العتيقة، والأحلام التي تسهر على تأثيث مخيلة الفنان طوال فترة العمل، كي يقلق أكثر، فتظهر النغمة مصقولة بالخوف والفخر معاً.
عمل لا يتكرر.