top of page
  • محمد حداد

قراءة في موسيقى الآخر 1

هناك تجارب كثيرة لموسيقيين من الغرب والشرق، يطرحون فيها الحاناً بعيدة عن ثقافتهم الأصلية، فيذهب كثير من الفرنسيين الى تأليف موسيقى على المقامات الخماسية والسداسية، ويذهب اليابانيون الى كتابة موسيقى تحمل الطابع الأوروبي من خلال اختيار السلالم الكبيرة والصغيرة، ويتجه العرب الى التعاطي مع المقامات المبتكرة لفن الجاز..


كل هذه التجارب التي يحاول فيها الفنان ان يكتشف نغمات تسعف شغفه الذي يتجاوز الجغرافيا، تجارب تثري الخريطة الموسيقية للفن عبر عصوره كلها. فقد استلهم كثير من الفنانين الموسيقين في العصور البعيدة مواضيعاً ابتكروا فيها مدناً وشعوباً غريبة عن ثقافتهم، وأبدعوا أعمالاً متقنة جعلت من نقاد الموسيقى أن يقفوا طويلاً عند هذه الأعمال، ويتناولوها موسيقياً وثقافياً، وإنسانياً. وسنتناول في هذه الحلقة التجارب الموسيقية التي سبقت التكنلوجيا، والتطور الإعلامي، فهذه مرحلة مهمة من حيث صعوبة أدوات البحث الموسيقي للمؤلف، وصعوبة التنقل بين البلاد المختلفة.


كتب المؤلف النمساوي جوزيف هايدن عام 1775 أوبرا (لقاء غير متوقع) والذي تناول فيها ألحاناً شبيهة بالموسيقى التركية، والعربية حيث تحكي الأوبرا قصة المواجهة بين الأمير علي مع الملك وهروبه مع حبيبته رضية، كي ينتهي بهم المطاف في القاهرة.


وقد برع موتسارت (وهو مؤلف نمساوي أيضاً) في وصف الإستعمار التركي للنمسا من خلال الحركة الثالثة من سوناتا للبيانو التي كتبها عام 1778، والذي أطلق عليها المارش التركي، حيث وصف الأستعمار التركي وسيطرته على الفلكلور النمساوي من خلال كتابة رقصة نمساوية يتم تشويه لحنها الدال بعد دخول الأتراك الى النمسا!


(خراب أثينا) هو عمل كتبه بيتهوفن عام 1811 ليصاحب مسرحية تحمل نفس العنوان، وفيها وصف للثقافة التركية وهي تتغلغل في الحضارة اليونانية، ومن أشهر الألحان في هذا العمل هو المارش التركي، وذهب بيتهوفن هنا الى تخيل الألحان التركية والأجواء التي تحكي حيات السلطان، كما أنه كتب لوحة بعنوان جوقة الدراويش، وهي مكتوبة للكورال الرجالي.


وكتب المؤلف الإيطالي روسيني عام 1813 وهو ما يزال في 21 من عمره، أوبرا قصيرة من فصلين بعنوان (الفتاة الإيطالية في الجزائر) حيث عمل محاكاة للموسيقى الشمال إفريقية والطابع التركي الى جانب الطابع الإيطالي الطاغي للأوبرا.


كما قدم المؤلف الألماني يوهانس برامز عام 1869 رقصات مجرية للبيانو ثم وزعها للأوركسترا وعددها 21 رقصة، والتي أصبحت من أشهر الرقصات التي كتبت للأوركسترا، حتى نافست الرقصات التي كتبها المؤلف المجري الأصل بيلا بارتوك! والذي يعتبر من أهم المؤلفين القوميين في المجر. وقد تناول برامز في هذه الرقصات الحاناً فلكلورية مجرية قام بتوزيعها لمجموعة كبيرة من الآلات، ما عدا الرقصات رقم 11 ، 14 ، 16 فقد ألفها بشكل كامل من أفكاره اللحنية الخاصة، مما يؤكد أنه لمس الروح المميزة لهذه الثقافة المجرية، وتمكن من إبداع ألحان فيها نفس الروح.



وقد كتب المؤلف الفرنسي (كاميل سان سانس) أوبرا شمشون ودليله عام 1872 وقد كان واضحاً التناول الشرقي للألحان، حيث أن الأحداث تدور في فلسطين عام 1150 قبل ميلاد المسيح. وتسرد الأوبرا (حسب العهد القديم) الصراع بين بني إسرائيل والفلسطينيين، وولادة شمشون كي يكون المنقذ.




كذلك أوبرا كارمن التي كتبها المؤلف الفرنسي جورج بيزيه وقدمها عام 1875، والتي صاغ فيها ألحاناً غجرية تنضح بالروح الإسبانية معشقة بالأناقة الفرنسية (وهذه معادلة صعبة جداً)، وعندما سئل بيزيه عن كونه سافر الى إسبانيا أم لا كي يقوم بالبحث في الموسيقى التقليدية الإسبانية، أجاب: ((لا.. كان هذا سيربكني في عملي!)).


ومن الأعمال التي أبهرتني في طريقة تناولها للموضوع المقترح هو عمل (مارش العبيد) الذي كتبه المؤلف الروسي تشايكوفسكي عام 1876، وفيه يرسم المؤلف صورة قاتمه للحرب بين صربيا وتركيا بعد ان قام أحد الجنود الأتراك بقتل مجموعة من العبيد المسيحيين، وفي هذا العمل يتنقل تشايكوفسكي بين الألحان الشعبية الصربية والرؤية الخاصة به للجو التركي.





ومن منا لا يعرف متتالية شهرزاد التي كتبها المؤلف الروسي ريمسكي كورساكوف، والتي أصبحت دلالة لحنية لأي عمل يتناول إحدى قصص ألف ليلة وليلة، وكلما ذكر إسم شهريار في الدراما سواء العربية أو الغربية، نرى هذا اللحن الدال يترائى لنا كي يكمل الصورة الشعرية للكلام المباح. وهنا يطرح ريمسكي كورساكوف رؤيته الخاصة في موسيقى الشرق، وبالأخص بلاد فارس. وقد تم تقديم هذا العمل لأول مرة عام 1888.


هذه كلها نماذج من ذهاب المؤلفين الموسيقيين الى ثقافات أخرى غير موروثهم الأصلي، وفي كل تجربة من هذه التجارب تولد ملامح جديدة تفتح الباب لتأويل الآخر ومحاكاته، خصوصاً أن أغلب هؤلاء المؤلفين لم يتسنى لهم الذهاب الى البلاد التي يقترحون شكلها الموسيقي، ولم يكن وقتها الانترنت موجوداً كي يختصر المسافات، ولا الفضائيات منثورة في السديم كي تكشف لك خبايا الشعوب. فقط الإيمان بالتجربة، والقراءة المكثفة عن الآخر في الكتب والرسائل، والكتابة الموسيقية الحرة.. هذا فقط ما يسعف الفنان الموسيقي في ذلك الزمان.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page