الموسيقى.. وهي تذهب للمسرح
بقلم : محمد حداد
المسرح كذبة مشتركة تقوم بها مجموعة من الفنون التي تتقاطع معاً لإيصال الحقيقة الأخرى. وسط الصالة نمنح أنفسنا للطاقم الذي يبدأ اللعب على مشاعرنا، فأينما يبدأ العرض ترى الجمهور متلبساً بالصمت قبل الإظلام، لكنه يمر على البكاء حيناً والضحك أحياناً، فالمخرج يطيب له أن يفجر ما بداخلنا كلما سنحت له الإيماءة أو الكلمة. والموسيقى هي عنصر مهم وحيوي وسط هذه الخديعة المتفق عليها بين الجمهور والطاقم المسرحي، تمنحك المعنى وتكون المتن والهامش معاً، تتقمص الجمال والقبح وتفرض على الذوق احترامها، متنوعة كألوان الحياة.
سيدة الموقف هي الموسيقى، ففي الوقت الذي تراها تصرخ فرحاً أو طفولة بآلاتها المبهجة، تراها قادرة أيضاً على تقمص الكآبة وهي تصف الحزن والموت، تذهب الى العتيق من الآلات لتصف التاريخ وما قبله، ثم تأخذك وأنت جالس على كرسيك وسط الصالة، لتدخل معك الكنائس مخفورة بصوت الأرغن العظيم.. تلفحك بلهيب الشطح الصوفي مع صوت المزاهر والصنوج، تصف الخوف و التردد، الإنتظار و الجنس، التوتر والإنتصار، تسعف لغة الممثل على خشبته، وتمنحه الثقة فيتأكد بأنه صادق في كذبته، وبما أن الجسد واللون والضوء متواطئون جميعهم في هذه اللعبة، فالموسيقى تصبح خيطاً رفيعاً يربط كل هذه الأدوات معا كي يلبسها الممثل بثقة الفارس، لنصاب نحن بهزيمة المنتصر!!
يذهب المؤلف الموسيقي (عادة) في حوار طويل مع المخرج المسرحي حيث لا يمكنه البدء في وضع أفكاره الموسيقية دون الوقوف على تفاصيل النص المسرحي، ففي الورق تكمن البذرة الأولى، وفي الحديث مع المخرج يبدأ الماء في التدفق، فوجهة نظر المخرج في تفسير المشهد تفتح الباب للمؤلف الموسيقي على جمل لحنية لا تحصى، خصوصاً في ابتكار التناقضات بين الصورة والصوت، فتأتي النغمة مناقضة لما هو مكتوب في بعض الأحيان، لتفتح الباب الآخر للمتفرج على تآويل لا تنتهي.
في التجربة المعاصرة للمسرح العربي كثير من الإرتجال العشوائي في التعامل مع الموسيقى، فقد ذهب كثير من المخرجين المسرحيين العرب الى استخدام بعض الأعمال الموسيقية العالمية (الكلاسيكية خصوصاً) لوضعها في العمل المسرحي، وهذا في حد ذاته ليس عيباً، فشخص مثل المخرج السينمائي ستانلي كوبريك عندما يلجأ لاستخدام كثير من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية في أفلامه ويوضفها بشكل مبتكر وذكي، برر ذلك بقوله أنه لم يجد مؤلفاً حياً يستطيع توصيل ما يفكر فيه! لكن في بداية الحركة المسرحية العربية المعاصرة كان التبرير الأهم لذهاب المخرجين للموسيقى الكلاسيكية يكمن في نقطتين، الأولى أنهم وجدوا في الموسيقى الأوركسترالية فخامة تسعف تواضع الإنتاج المسرحي وتعزز مواضيعه فأعمال مثل (السيمفونية، الكونشرتو، الباليه، القصيد السيمفوني والمتتالية) فيها كثير من الألحان التي تشبه الدراما في تناولها للأحداث، مما يسهل على المخرج اختيار ما يناسبه من ألحان تتفق مع الجو العام للعمل المسرحي. وكان هذا ناجحاً مع الأعمال المسرحية المترجمة عن المسرح العالمي بشكل خاص، لأن الصبغة الغربية تكون موجودة أصلاً بين ثنايا النص المكتوب.
أما النقطة الثانية وهي الأهم أن في الموسيقى العربية يوجد كثير من التطريب اللحني الذي يركز على مخاطبة الحس الغنائي في الموسيقى وليس الحس الدرامي، وهنا يبدأ الإنفصال بين الموسيقى والمشهد، فالمتفرج يصبح مأخوذاً بالموسيقى ويبتعد عن الجو العام للمشهد.. فبعد هذا كله نتجت مجموعة من الأخطاء التي وقع فيها بعض المخرجين لقلة خبرتهم الموسيقية، وهي الاختيار العشوائي للموسيقى في العمل المسرحي، و تندرج هذه الأخطاء تحت ثلاث نقاط:
أولا: إختلاف موضوع الموسيقى مع موضوع العمل المسرحي.. فأحيانا ونتيجة لتولع بعض المخرجين بموسيقى معينة، يشعر لا إرادياً انها مناسبة لموضوعه الذي يناقشه في عمله المسرحي، فيدرج هذه المقطوعة ضمن العمل مما يؤدي (أحياناً) الى مشهد حب تصاحبه موسيقى حزينة، أو مشهد وداع تصاحبه موسيقى نشيطة.
ثانياً: اختلاف الطابع العام والصبغة الإثنية بين العمل الدرامي والموسيقى.. فنشاهد (مثلاً) مشهد مسرحي يناقش موضوع عن التراث البدوي في العالم العربي، والموسيقى المختارة تكون لآلة الجيتار الكلاسيكي والفلوت، مما يجعل هناك عزلة بين الممثل وطبيعة المكان.
ثالثاً: قوة الموسيقى وضعف الأداء المسرحي أو العكس.. فأحياناً اختيار الموسيقى يكون معتمداً على ما جاء في النص المسرحي المكتوب فقط، فيتم اختيار الموسيقى من خلاله، وينتج عن ذلك ان مشهد المواجهة بين الزوج والزوجة مصحوباً بموسيقى لأوركستراً مكونة من 40 عازفاً بين النفخ النحاسي والإيقاعات والوتريات، وهذا يعتبر مبالغة في الصوت بالنسبة للصورة، وأحياناً يكون مشهد الحرب لمجموعة من المحاربين على الخشبة مصحوباً بموسيقى مكتوبة لآلتين فقط، وهذه الإزدواجية تربك المتفرج (إذا لم يكن لها إسقاط معين يفسر هذا التباين بين المرئي والمسموع).
هنا تكمن أهمية المؤلف الموسيقي أو المشرف الموسيقي على العمل المسرحي، حيث تكون له رؤية علمية مبنية على قراءة متأنية للمشهد المسرحي واللحن الموسيقي في نفس الوقت.
الموسيقى في العمل المسرحي تتقمص أشكالاً مختلفة، فحيناً تكون على هيئة الراوي الذي يحكي الجو العام للحدث، وأحياناً تتقمص الشخصيات الموجودة فتضع لكل شخص لحناً مختلفاً. فالمؤلف الموسيقي يتقن اختيار الخامات الصوتية المناسبة (للحدث/ الشخصية/ الفترة)، فيلبس الحرب آلات النحاس والطبول، وتتأرجح آلة التشللو بين الأم والشيخ، وعصر الباروك لا يليق به إلا الهاربسيكورد بنغماته السريعة.
كذلك المقامات لها نصيب في السرد المسرحي حيث السلالم الكبيرة تصبغ المشهد بالفرح والإشراق والقوة، فيما يصف النهاوند الحب والإنتظار، ويلبس الحزن مقام الصبا ليحفر فينا أروقة للدمع والذكريات.
بعد كل هذا يتبين أن هناك خصوصية ما في التعامل مع النغمة في العمل المسرحي، ومن الجميل أن يتعاون المخرجون الشباب مع طاقم متكامل من المتخصصين بدون تردد في (الموسيقى، الديكور، الإضاءة، تصميم الرقصات، الملابس، الصوت) فمع هذه الجرأة الجميلة التي ينتهجونها في أعمالهم المسرحية، لا ينقصنا سوى النظر الى الأمور بشكل عقلاني، حيث لن يضطر المخرج لأي سبب (في الإنتاج أو في التقنية) أن يضاعف المجهود الذهني الذي هو فيه، ويلجأ بنفسه الى تنفيذ كل هذه الأشياء، مما يضعف تركيزه على الإخراج المسرحي.
وأخيراً الإهتمام بعنصر الوقت الذي يمنحه المخرج أو المنتج للمؤلف الموسيقي عند الإتفاق معه على العمل، فالمقطوعة الموسيقية التي مدتها خمس دقائق، تحتاج الى أكثر من خمس دقائق للتأليف والكتابة والعزف والتسجيل والمكساج!! فقط كي لا يلتبس الأمر عند البعض.