فيروز.. إسمٌ منح للقلب تفسيراً
بقلم : محمد حداد
مثل الحلم تنسل بين رفوف مكتبتي الصوتية التي أرشفتها بأبجدية محكمة، كي لا أضعف وأضع أسطواناتها خلسة في الرف الخاص بحرف السين لأنها (سيدة المقام الموسيقي وأيقونته)، كما أن رفوف العين لا تسعها أيضاً، وكونها "لولو" لم يشفع لي أن أضع اسطوانتها في رفوف حرف اللام.. أحياناً أعقف لها قاف القلب مدعياً أنني أخطأت بين القاف وبين الفاء (وهو حرفها الرسمي في مكتبتي)، ثم أبتكر تصنيفاً يمكنني من أن أدس أسطوانتها في رف الميم، مبرراً ذلك بأن ألبوم "مشوار" يبدأ بهذا الحرف.. تتعب مني الأبجديات لأبدأ تصنيفاً ثالثاً، لعلّي أكون به منصفاً للآخرين!! فأرتب ألبوماتها في رفوف الأغنية العربية، لكنني أنسى متعمداً من دون قصدٍ إسطوانتيها: (ولا كيف) و (كيفك إنت)، تسبقهم أسطوانة (معرفتي فيك) بين رفوف موسيقى الجاز، متعذراً بأن زياد صاغ لصوتها مجموعة من الأغنيات تتلبس بين حناياها تعابير الجاز (إن جاز التعبير)، وحيناً (أفاجأ) باسطوانتها متربعة بين رفوف الموسيقى الدينية، فليس هناك مكان أقدس من هذه الرفوف (للجمعة الحزينة) و (أغاني الميلاد)، ثم أراها شامخة في رف موسيقى الوطن، حيث (راجعون) يسرد أجمل ما قيل في احتراف الحزن والإنتظار.. تفعل كل ذلك غير مكترثة بأبجدياتنا وكأني أسمعها تقول:
(غيروا أساميكن.. إذا فيكن!!)
مثل الحلم تنسل في تفاصيلنا.. إبتكرت للوطن صورة جعلتنا نصبر عليه، أثثت كنائسنا بتراتيل يبتسم لها الرب، رممت ما أتلفته الحروب فينا، ومسحت الحزن عن أفراحنا والمساجد، هدهدت أحلامنا واقتسمت معنا العشق. امرأة ترى بيروت كما لم يرها أحد، تلتذ في وصف تفاصيل هذه المدينة الجريحة فتفتك بنا، مسنودة بأسياد الكلمة واللحن، وهم يشحذون أنفاسها بأغنيات تصبها في قوالب أراوحنا ليتلف الجسد.. نصلي ونعشق ونناضل بما يحرضنا عليه قنديلها، فيما هي ترى إلينا شامخة، وكأن الرب فرغ للتو من خلقها.
في البدء تغنّي.. فتحسب أنها تغني لك وحدك، ولا أحد سواك يسمعها، بعد ذلك تشعر بأنها تغنيك أنت، لحميمية مواضيعها التي تتمرغ في تفاصيل (حلمك وخوفك، عشقك وتعبك، وطنك ودينك).. فتخبرنا أن (غدها كل يوم بات يرتجل) كي نألف ما نحن فيه من (هموم الحب)، تهمس في آذاننا (شو بخاف) و (أنا فزعانة!) لكي نعرف أننا لسنا وحدنا، فنطمئن في خوفنا.. في صوتها نسمع (عصفورتي الشمس والشجن)، تنتظر (الجلنار) لكنها لا تأتي، تغريك وتغرر بك ولا تهدأ إلا إذا سلمتها أذنك وروحك و (مفاتيحك)، تحرس أطفالك وأحلامهم، تفرح بالهدايا، تنتظر عند المفارق وتُنسى مع المنسيين، خبّرها العندليب بأنها سترجع يوماً مع المهجرين، تهوى بلا أمل، الناطرون يهدونها مزهرية جديرة بها، وتهدي حبيبها مزهرية لا يستحقها، تتغنى بـ(يارا والمسيح)، تعطينا درساً في الحياة حين (تقول لطفلتها) الكلام، تزور بأغنياتها (مكة والإسكندرية ودمشق)، تأخذنا معها وهي تقول بخجل (لا تسألوني ما اسمه حبيبي)، فنعرف أنها ستأخذنا إلى (طريق النحل)، نزداد قرباً منها لتسّر لنا كيف يكون العشق (فتفرش لنا العشب ليلاً، وتسقينا الفجر خمراً)، أما عن قصتها مع القمر، فلا أحد يجرؤ على تفسير هذا الولع المتبادل بينهما، فقد ذهب القمر بها وذهبت هي بنا حين غنّته وبكته وسهرت معه، أحياناً تشهق عالياً مثل نجم طافر من أيقونة لا تطالها صلاة، وأحياناً أخرى نراها تسكن غرفنا ببساطة الأخت والأم والحبيبة التي تقول (الله يخليك.. خليك بالبيت)، لكن إذا راح حبيبها "بترم مش مسموح"، تراها وبكل ثقة تقول له "مش فارقة معاي"، خصوصاً انه (عا أهلو ما معرفها وعا صحابو ما مشوفها).
تغني أخطاءنا بكل صدق، تحرض العشاق على الهروب، ثم تسأل مثل طير القرميد (وينن؟)، تتغنى بألحان لا تتألق إلا بصوتها، فتأتي مخفورة بموتسارت كي تعترف لحبيبها (عرفوا إنك حبيبي!)، ويأتي يواخين رودريغو ليرسم معها (وجه بحار قديم) كي يكتمل مجدٌ من رمادٍ لبيروت، مرت على جنّة الرحابنة باختلاف أجيالها وأمزجتها، حيث أسست معهم درسنا الأخلاقي والحياتي والوطني، فعشقنا ما تبقى من أوطاننا علّنا نليق بها. و صعدت (فوق هاتيك الربى) كي تغنينا زكي ناصيف، ثم فيلمون وهبي ومحمد عبد الوهاب، ولم تنس سيد درويش و محمد حسن.. اختلفت الكؤوس، لكن يظل نبيذ فيروزها مصقولاً، فتغار منها الخواتم وباعتها.
امرأة مثلها.. كيف لك أن تتفادى حضورها فيك؟ وكيف تتفادى فكرة ذهابك إلى البحر مع حبيبتك الوحيدة بك، لتجلس في سيارتك مواجهاً الموج محاولاً الإصغاء معها الى صوت الملاك وأنتما مغمضا العينين، علّك تحظى بما يطفر من بقايا صوتها الذي يهز قلاع الروح وعروشها، لتتأكد بأنك مازلت على صواب في جميع أخطائك.