top of page
  • محمد حداد

في أمسية تغسل السمع والجسد.. هبة القواس (تفتح السماء) بكلمات ندى الحاج

بقلم: محمد حداد


في ذهاب جديد الى مركز الشيخ ابراهيم بن محمد للثقافة والبحوث، وفي أمسية مختلفة للفنانة هبة القواس في زيارتها الأولى لجزيرتنا الصغيرة المرهقة بحب أهلها لها.. تدخل تفاصيلنا هذه الهبة التي تدفق الله فيها، حيث منحها شيئاً من صوت جنّته، ففي نغمات صوتها نبيذٌ تقترحه الآلهه، وأرغفة لا يتقمصها أي جسد، والأجمل من ذلك انها تبتكر موسيقاها وحيدة مع آلة البيانو.. فتؤلف لحنها وتغنيه.. هبةٌ مزدوجةٌ لا تضاهى من الخالق..


في أزرق يغمر المكان يجلس حشد متسائل هل نحن في الحلم؟ أم ان هبة الله لا تقبل إلا بلون السماء كي تطمئن للمكان وهي تبوح موسيقاها لنا؟ نراها مثل الجنية متوهجة تمشي بيننا بحماس التجربة، تمسك بطرف فستانها وهي تتمتم بتعاويذ لم يتسنى لنا فهمها، على صدغيها ابتسامة خجولة وتلعثم الأطفال يقطر من عينيها وكأنها تعتذر لنا عن غيابها طويلاً (فقد كانت في مهمات أخرى في النصف الآخر من الكوكب)، تجلس مواجهة آلة البيانو لترتب نوتاتها وآذاننا في ذات الوقت.. فقد تعودت أذاننا على الإستماع لما يقال عنه غناء – لفترة طويلة - مما جعلها قلقة بعض الشيء.


تصحب هبة القواس في هذه الأمسية الحالمة الشاعرة ندى الحاج التي غنت لها هبة أكثر النصوص حيوية في هذه الليلة.. شاعرة لا تقل غيوماً عن هبة القواس، حيث تكونان معاً سديماً من الحداثة النصية والموسيقية التي نتوق اليها في ليالٍ نادرة كهذه الليلة التي نخشى أن تنتهي قبل أن تبدأ.


تبدأ الأمسية بهدوء لم نعتد عليه، فتمر القواس على نصوص تقطر منها الأنوثة كما في الأساطير، فعندما غنت لنا (وتحبني) للشاعرة هدى النعماني نراها تتهجى الحب بذكاء لحني حيث السكتات الموسيقية تأخذ مكانها في اللحن وهذا يليق بمن يتهجى الحب! ثم نراها في حوارية جريئة في طريقة التنفيذ والمزاوجة بين القراءة والغناء مع ندى الحاج في أغنية (وكم أعرف).. وفي حرصها على وحدة الجو بين الكلمة والنغمة تتجلى في قراءات ندى الشعرية لقصيدة (إفتحوا السماء)، ولا تنسى الحاج أن تفاجئنا بلمسة منها بنص رشيق بعنوان (بلمسه منك) كتبته باللبنانية الدارجة حيث تعاملت هبه مع هذا النص بذكاء الغرب وحميمية الشرق، فكانت التآلفات الغربية الواضحة لآلة البيانو تصبغ كلمات الضيعة والبيت والكرمه بلون مبتكر.

أما في قراءة ندى لنص (أنت كم أنت) فنلاحظ في ارتجالات القواس انها مليئة بالدراما اللحنية التي تتشابك مع الكلمة لتكون لنا لوحة كاملة التفاصيل من الوصف الحميم، فالحس الموسيقي الدرامي حاضر في الكلمة، حيث يكون تأثيرها أكثر قوة، فتأتي (قبلة) لتصف لنا الجدل الحواري بين شخصيتي المارد والتنين في طرح مغاير على صعيد النص الأدبي، أما النص الموسيقى المرتجل فقد لعب على الجمل الموسيقية الناقصة التآلف التي أضافت غموضاً لذيذاً للقصيدة، والجمل الحنية المتلاحقة لآلة البيانو توضح الحوار الكوني بين كائنين عظيمين يتقاسمان وجودهما المستحيل.


وفي محاولة مختلفة لهبة القواس بالدخول في المقام الموسيقي الكبير في أغنية (نجوم الدني بعينك) من كلمات ندى أيضاً، نلاحظ في بداية الجملة الأولى للقصيدة (وأقصد الجملة الموسيقية هنا) انها ترجع بنا لذاكرة لحنية كانت بصمة في محاورة اللحن الكبير للأغنية العربية وهي اغنية (أنا لك على طول) التي غناها عبد الحليم حافظ ولحنها محمد عبد الوهاب في لحن رشيق وناعم شبيه بالسيريناده التي يغنيها العاشق تحت نافذة معشوقته، لكن هنا قلبت القواس مفهوم السيريناده، فقد سمعناها في هذه الليلة على لسان العاشقة وبنعومة مضاعفة لما عند هبة من هبة!! لكن عندما تغني للحسين ابن منصور (يا نسيم الريح) فنسمع نغمات تعكس تضاريس العراق عن طريق تضاريس مقام الحجاز! فأبعاد هذا المقام العربي تستعمر الأغنية بثياب شرقية مهترءة تليق بالحلاج و شطح صوفيته وخصوصاً مسافة الثالثة الزائدة التي راهنت عليها القواس.


أما في أغنية (وددت أن أقول) من كلمات الحاج أيضاً فأعتقد بأنها من أقوى ما قدمت القواس في تلك الأمسية المختلفة لحناً وكلاماً، ربما لا يتفق معي الكثيرين لكنني لمست في هذه الأغنية حساً جديداً في مدرسة مثل مدرسة القواس التي تعنى بالقصيدة العربية وتزاوجها بالجرأة اللحنية الغربية. وفي (عارية اليدين) تتفنن هبة الله بلمساتها على آلة البيانو، ففي حضرة الشعر الذي تسرده الحاج تسرد القواس شعرها اللحني نغمة نغمة. وفي (يدك) للشاعرة هدى النعماني لم أتوصل لما تريدني أن اصل له هبة القواس!! لكن في أمسية مثل هذه لا يسعني إلا ان اشحذ قلقي في انتظار تجربة أخرى للفنانة نفسها تبهرني بمزيج من الإلتزام والجرأة في جسد العمل الواحد. تحية للقواس والحاج.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page