ذاكرة الجنون تقرأ موسيقى الجسد
يقال في الكتب العتيقة: (الله محبة).. هل لنا شاسع الحرية أن نقرأ الحياة ونحن محصنون بكلام يبدأ بالحب؟ هل لنا أن نقول الحب كما نراه؟ أحقاً هو الحب الذي (هدى قيساً إلى ماء الهلاك)؟
ورشة من طقوس الحب الثائر تولد في هذا المكان، تستحضر التاريخ لتكسر به أقفالاً صنعت قبل المفاتيح.. وكل ذلك لكي يضيئوا قناديل الطريق لأحفادنا المحتملين: قيس وقاسم وقلب وقميص وقوس قزح شاحب،.. أرقبهم في ظلام الصالة وهم يشحذون أجسادهم الغضة كي يشحذوا ذاكرتنا المعطلة، أجساد طازجة وكأن الله فرغ للتو من خلقها، أكاد المح آثاره في براعة رقصهم. صبايا مليئات بالبهجة. وفتيان جاءوا من سمّاق الجبل.. كلهم قيس وكلهن ليلى.
أوراق تتناثر في المكان، كل منها يحوي جزءا من أخبار المجنون، بعضها مصاغ على هيئة رموز موسيقية و بعضها سرد أو شعر منثور، ومن الأوراق رسومات لحركات وتكتلات، وأخرى تخطيط الإضاءة على المسرح.. كل هذه الأوراق نثرت في الصالة كما ينثر الليلك في صباح الحب الأول. نرى (قاسماً) بعصاه التي سئمت إصراره على رفقتها متضرعة لنا أن نقنعه بأنه تعافى. يجلس على يمين الخشبة كي يسرد لنا الحب والقتل كما يستحلي أن يراه. أما (مارسيل) فقد توسط العازفين بعوده الذي حاك به غبار القبيلة و انسل به بين قمصان قيس وأسرار ليلى، عازفون متأهبون للنصال بآلاتهم العاشقة.
نرى بينهم (أميمه) و(يولا) وهما ترتبان حناجرنا بصوتيهما الفضي، تتقنان لمس المكبوت من أحلامنا في العشق بكلام يشبه التمائم التي يعدونها لنا كي تحرسنا من قمع القوم. كل ذلك يحدث في تناغم كبير بين ملاحظات (نادرة) المحرضة للراقصين، ووصايا البرتقال التي يحكم رباطها مارسيل على أزناد العازفين كتعويذة تضرم النار في ثلج الخيام المتأصلة فينا.
منذ الوهلة الأولى وجدت أن ليلى (جويل) تحفظ طريقها في الجنون بل وتذهب إليه وهي تضحك فينا وعلينا لأننا مازلنا عند أول الجادة، ومن الطرف الآخر لا يتعب قيس (جوني) الذي تزيده ضحكة ليلى جنوناً بها وصبراً على جحيمه، فمن عينيها يعرف بأنها تصبر عليه وتصغي له وتُجن فيه، ففي جويل وجوني (جيم) الجنون، فلا خوف عليهما ولا هم يحزنون.
وما ان يبدأ العزف حتى تتفتق الذاكرة، فنشاهد الرمز يطفر من القصيدة فيدخل في الأجساد التي تتلبسها شهوة الرقص لتبوح بجنون قيس وجموح ليلى وجحيم المضارب. نسمع في موسيقى مارسيل محاورة جميلة بين آلاته المنتخبة ففي إحدى اللوحات نلمس تفاصيل الرينيسانس في آلة التشيللو والكمان و الأوبوا و في الضفة الأخرى نشعر بعبوس الصحراء في مقامات أخرى يستحضرها بعوده مع الكونترباص بمرافقة الإيقاعات التي برعت في رسم الطقس العامري الذي أنكرته القبيلة.
استطاع مارسيل في هذه التجربة -التي حاول الخروج فيها عن مألوفه المختلف- أن يبتكر طرقاً وعرة يصعب على الموسيقى أن ترتاح فيها، وهكذا كانت الموسيقى دائما في صحراء نجد، وما تزال!! فمارسيل هنا يرسم بنغماته ألحاناً توازي جرأة قاسم في طرح جنون الفؤاد ورجاحة العقل، وقد نجح العازفون في ترجمة ما يختلج قيسا من انفعالات حسرة، ثورة، حب، ثمالة، حيرة، وجنون قلب.. لدرجة أنهم أوصلوا لنا لهاثه وهو ينثر أشياءه على مائدة الطريق وانقضاضه في جلده عند سماعه خبر العرس!
كعادتها أميمه تتفرد بصوتها القطيفة متمردة على الآلات الموسيقية مقنعة مارسيل بأنها جديرة (كعادتها) بأن تقول الحب وحيدة كليلى العامرية.. فقط يضيء مارسيل لها النغمة الأولى بريشته وتبدأ هي في البوح والنحيب فاضحة قيسها، لا حجاز يسعها ولا خليج. ثم يولا تتقمص ليلى بهشاشة صوتها الآسر، فنسمعها تخاطب قيساً وتمنحه الكتف ليبكي عليه، حيث صوتها يفعل فينا فعل الملح على الجراح.
نرى قاسماً يخرج من صحفه الملفقة متقمصاً بعضاً من قيس كي يؤكد لنا فداحة المشهد فتمتزج حكمة الراوي بجنون العاشق.
وهنا لا ينسى مارسيل الذهاب إلى المخزون الموسيقي الذي يسند هذه الروايات ويساهم في نقش الوشم في الضمير كموسيقى (الحنة) وكل الألحان الصوفية التي تمدح الحب ورسله. ثم يفاجئنا بموسيقاه التي تشبه الرقص الغجري المليء بروح بيزنطة التي استعار مارسيل ملامحها كي يؤكد أن في موت قيس سؤال ستتوارثه الأمم.
عندها يفصح قاسم عن احتمالات قتل قيس التي تتوضح في الشطح السردي الذي يتقمصه في صياغته وقراءته لمبررات قيس وما يفعله، ضارباً القوانين التي سنها رجال الدين والنصال التي سنها الأزواج المخذولون لكي يفتكوا به كما هتك أقبيتهم بحبه المجنون. كان ذلك تدريباً على عرض يحترم الجنون..
فلنتجرد من قلوبنا العاقلة قليلاً (لعلّنا نسمع.. لعلنا نرى).