top of page
  • محمد حداد

سعد جواد .. يصبغ تراثنا بنغمات سداسية


بقلم: محمد حداد


في أمسية جريئة أقامها الملتقى الثقافي الأسبوع المنصرم، احتضننا فيها المبدع سعد محمود جواد عازفاً على آلة العود مع العازفين الهنديين سونيل وساجيد.


كانت مليئة بالطقس.. فمنذ الوهلة الأولى التي تربع فيها ساجيد (عازف الطبلة) على الأرض تشعر بأنك في بيته، وكأنه سيروي لك أخبار يومه المتعب، عندها يغيب عنك المكان وضيوفه والعريف، ومثله فعل سونيل (عازف الكمان) الذي كان يدوزن آلته وهو ممسكاً بها بطريقة غريبة علينا، وبالقرب منهم اعتلى سعد كرسيه، ودواسته التي أصبحت تألف جلسته الرصينة كلما عانق عوده المصقول وكأنه يتهيأ لعناق حميم. (مع أنني كنت أفضل جلوس سعد متربعاً بين العازفين الهنديين، حيث سيكتمل الطقس بالنسبة لي)، لكن تظل هذه وجهة نظر خاصة بي. فالأمسية كانت متمردة على المكان وعلى كل المداخلات التي ارتجلها عيسى، (حيث بان الضيق على سعد لكنه التزم الحلم كما عهدناه).


تلك الليلة وبحضور العازفين القادمين من بلاد شانكار عازف الكمان وزاكير حسين عازف الطبلة، هذين الفنانين اللذين أصبحا رمزاً للتجارب الموسيقية التي تحاول اجتياز المسافات والأعراق كي يصنعا موسيقى العالم. أما في أمسيتنا فقد أخذنا سعد مع (مريديه) منذ المقطوعة الأولى التي افتتحوا بها الأمسية، إلى واحة من مقامات موسيقية تجعلنا نتساءل من الذي ابتكر هذه المقامات أولاً نحن أم هم؟ فمقامات مثل الحجاز والزنجران والنهاوند، ارتجل عليها سونيل برشاقة الذئب، وكان يعرف خبايا هذه المقامات كما يعرفها سعد، بل كانا يتبادلان مع بعضهما الجمل اللحنية دون الاحتياج إلى (مترجم)، فكان سعد يعرف بالضبط ماذا يقصد سونيل، وخصوصاً من خلال النظرات التي يسترقها بين لحظة وأخرى، والتي تحوي ابتسامة نلمس فيها ثمالة الانتصار ونشوة من يفك شفرة لطالما تعبنا في البحث عنها.


ولكي يثبت لنا سعد بأنه واثق من المكان الذي يذهب إليه، ومن الوجهة التي يأخذنا إليها، حيث كان يقول لنا بذكاء: إن كل هذه المقامات المختلطة عليكم، أنتم تعرفونها وتغنوها منذ (يا حلاوة الدنيا، وأنا قلبي دليلي) ثم ختمها بلحن (صغيرة كنت وانت صغيرون) التي عزفها في ذروة نشوته الارتجالية على هذه المقامات التي تشبهنا، ولكن بأسماء أخرى وزركشات نغمية مرصعة بها، تجعلها تليق بثقافة كالثقافة الهندية، التي تحوي كل ما هو طقسي وغامض، وطقس الارتجال تتقنه ثقافتنا الموسيقية، التي بنت أغلب مقاماتها على الارتجال اللحني، معبرة عن مخزون حسي.. فيرتحل المقام بين الثقافات، كما تتناقل البلدان الأساطير المتشابهة في المضمون، ولكن بأسماء أبطال مختلفة، فسندريلا تصبح (حمده) في ثقافتنا وأحياناً (فسيكره) كما كانت تروي لي أمي عندما كان النوم بعيداً..


هكذا يسافر مقام الحجاز كار والكرد والعجم، ليلبس الحلة الهندية بين أنامل سونيل، وهو يسكب نغماته الحنونة مشاكساً سعد في ارتجالاته، بينما يقيس ساجيد النبض الصوفي لهما كي يؤكد لهما (ولنا) بأن الكون بدون الإيقاع لا لون له (ففي البدء كان الإيقاع)، وأن طبلته تشعل لهما القناديل وتضرم الحب في المكان، وتؤجج الرغبة في العزف أكثر (كما في الحب).


مع أن الأمسية كان عنوانها الحوار، وقد رأينا معاً كيف كانوا يتهجون الحرف الموسيقي بسلاسة المحترفين، لكنني افتقدت الحوار الفعلي بين الطبلة والآلات الأخرى، كما عودتنا الموسيقى الهندية في المحاورة السريعة والمتصاعدة بين أنامل عازف الطبلة والكمان مثلاً، لكنني حقاً كنت ثملاً بما رأيت في هذه الأمسية، التي حقاً لم تكن بحاجة إلى أي تقديم، فموسيقى من هذا النوع تشرح نفسها (والصدر معاً)، وتفسير الفن في هذه اللحظة لا معنى له، ففي تلك الليلة تذكرت كلمة فيكتور هوجو عندما قال (لا تفسر الفن فتفسده). ففي اعتقادي انه كان يجب على إدارة الملتقى أن تثق بنا قليلاً (وبالعازفين) بأننا جميعاً جديرون بأمسية مختلفة مثل هذه، وإننا سنتعلم من الآلات والأنامل أكثر مما سنعرفه من الكلام. تحية للعازفين الثلاثة، وتحية للمجهود الذي قام به الملتقى مشكوراً بأن يقدم لنا هذا النوع من الفنون التي تصقلنا حقاً.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page