top of page
محمد حداد

أن تؤلف نغمةً.. تضغط زناداً


موسيقى النضال في لبنان

بقلم: محمد حداد


عندما أتكلم عن الموسيقى النضالية في بلد مثل لبنان سيكون الكلام شاسعاً كالجرح.. فهناك أعمالاً بعدد الضحايا ومغنون منحوا مكتبة الجرح الوطني ما يكفي ويفيض ليكون مخزوناً للجروح المحتملة في (المستقبل) الذي يهددنا دائماً بالمجيء.


فمدرسة الرحابنة (التي لا تسعها زاويتي الصغيرة أن أتكلم عما قدمت)، قد كرست بأنامل وأفكار الأخوين رحباني بمعية السيدة فيروز مشوارها الإبداعي لثلاث مواضيع أساسية هي : الوطن، الرب، والإنسان. فكانت أعمالهم الغنائية تتأرجح بين هذه المواضيع، أحياناً يتلاشى الوطن في الحب، وفي أحيان أخرى يمتزج الجرح مع الإنسان، وكثيراً ما يلح سؤال الألم الكوني في السؤال عن الوجود الإلهي. فمن منا لم يستمع إلى أغنية (بعدنا.. من يقصد الكروم) التي قدمتها فيروز في ألبوم (راجعون) عام 1957.. هذه الأغنية الجميلة التي ترسم الحقول والتلال والفتيات وهن يقطفن دوالي العنب ويملأن السلال. تشعر ببراءة السرد في هذه الأغنية التي صاغها الأخوين على إيقاع (الرومبا) المبهج والمحرض على الرقص. وكأنه يخبر المهجرين (والمهاجرين) معاً بأنه بعدكم من يبقى لكل هذا الجمال الذي لا يستحقه غيركم.


وفي أغنية أخرى تبني لهم فيروز بنغمات الأخوين وكلماتهما (جسر العودة)، ولا تمل فهي (تحترف الحزن والانتظار) هذا الألبوم الذي جعل من الرحابنة (آباءً للعمل الفدائي) كما كتب عنهم في تلك الفترة. وتواصل فيروز في منح صوتها للمقاومة الفلسطينية حيث تؤكد بأغنية (مريت بالشوارع.. شوارع القدس العتيقة) بأنها كانت هناك وقد أعطاها أبناء القدس مزهرية ( وقالو لي هايدي هدية من الناس الناطرين)، عندها صاغ سميح القاسم (زنابق لمزهرية فيروز) كي تحتضن مزهريتها زنابقه كما سيحتضن القدس (ناطريه). وقد شدت رجاء بلمليح مع صوت خالد الشيخ وألحانه هذه الزنابق بثقة.


ومن أكثر ما غنت تأثيراً في عام 1972 البوم (القدس في البال) الذي يحوي أغان عن فلسطين أهمها أغنية (زهرة المدائن) التي تعتبر أقوى ما قيل في القدس من أغنيات، ففي هذا العمل برز الثالوث الذي منحت نفسها له وهو الصلاة، الشعب، والوطن، فكانت الأغنية عبارة عن نصب شامخ في تاريخ الغناء النضالي والإنساني والفني. وحقاً كانت تستحق أن تمنح المفتاح الخشبي لمدينة القدس عام 61.


أعرف بأنني لن أكون منصفاً في كلامي عن مشوار الرحابنة وفيروز، فسأنتقل إلى مرحلة دخول زياد الرحباني (المناضل اليومي) بين الرحابنة، فدخوله الأول كان ناعماً وحميماً لدرجة تبعث إلى البكاء (الحق أقول لكم بأنني كدت...)، فأول أغنية قام زياد بتلحينها وكتب كلماتها خصيصاً لوالدته فيروز أثناء تحضيرها لمسرحية (المحطة) عام 1973، فقد تغيب عاصي الرحباني عن حضوره فترة الإعداد لهذه المسرحية بسبب تعرضه لأزمة شرايين الدماغ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يغيب فيها عاصي عن فيروز في إعدادها لعمل. حيث كانت فترة صعبة جداً عليها أن تغني في غيابه. فصاغ زياد أغنيته التي تعبر عن إحساس فيروز حيث تقول : ((سألوني الناس عنك يا حبيبي، كتبوا المكاتيب وأخذها الهوى، بيعز عليّ غني يا حبيبي، لأول مرة ما بنكون سوا)). فترى الحب عندما يغمر المكان كيف يكون شكله. وبعد ذلك دخل زياد في أولى تجاربه المكتملة مع فيروز، وهو البوم (وحدن) الذي يحمل عنوان قصيدة من أجمل القصائد الرمزية للشاعر طلال حيدر وقد صاغ موسيقاها زياد بشكل يتلاءم والجو الغامض والحالم لهذه القصيدة الرافضة.


وفي مرحلة أخرى أكثر جرأة تغنت فيروز على موسيقى المؤلف الإسباني (يواخين رودريجو) وتوزيع زياد وبكلمات الشاعر جوزيف حرب (لبيروت). أغنية تتحدث وبجرأة عن لبنان ما بعد الحرب أو الحروب، وفيها يسرد جوزيف حرب صوراً تحتمل أن تكون من وجهة نظر شخص بعيد (مهجّر) أو من وجهة نظر شخص يرى من الداخل ما حل بها. فبيروت التي تملك (مجداً من رمادٍ) وهي (موج سفر) بالنسبة له. أما أغنية (راح نبقى سوا) التي كتبها حرب أيضاً وهي بالنسبة لي أروع من أي نشيد وطني (أو ملكي أو جمهوري أو .....) سمعته في حياتي، فكلمات تبعث فيك النشوة، وتشعر بأنه مازال هناك وطن يستحق كل هذا الحماس والحب!! فكلمات تظل عالقة في أحشاءك، خصوصاً وأنها لحنت بشكل ذكي، ولو تفحصت الأغنية فستجد بأن أول سبع نغمات التي تكون الجملة اللحنية الأساسية التي بدأت بها الأغنية، تتكرر في الأغنية بشكل متنوع وذكي وكأن زياد يغرس فينا إبرته الثورية كي نسكر في استفاقته الوطنية :


من يوم الي تكون يا وطني الموج كنا سوى

ليوم البيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوى

تاجك من القمح مملكتك السلام

و شعبك بيحبك لتبرد الشمس و توقف الإيام

عا رماد اللي راحوا عا خاتم الزمان

على حجار السود اللي بقيوا من الحيطان

عا منديلك إمي عا بواب البيوت

عم بكتب يا وطني الوطن ما بيموت

و أنت أنت من يوم اللي كنت أنت

رسمتك سنابل شهدا و حمام

رسمتك يا وطني وطن السلام

من يوم...............

من إيدين الفقرا و شباك الصيادين جاية الحرية

و من الشمس المحفورة بعيون المظلومين جاية الحرية

و من الحق الضايع إلا من الشوارع

من شهدا الأرض الماتوا للأرض وجوهن منسية

جايي النصر و جايي الحرية

RSS Feed