top of page
  • محمد حداد

بريسنر: (أزرق في عالم ناقص) يجعلني أتنازل عن تحفي


ولد المؤلف الموسيقى زبيجنيوف بريسنر عام 1950 ببولندا، درس تاريخ الفن والفلسفة بجامعة كراكو ببولندا أيضا، وهو مؤلف موسيقي موهوب، كتب موسيقى لأكثر من 50 فيلماً بالإضافة إلى اشتغاله في المسرح واهتمامه بالأعمال التلفزيونية التي تنتج في بلده بولندا، وفي مرحلة أخرى استطاع بتميزه وإبداعه أن يحفر له مكاناً مميزاً في إنتاج الأعمال الدولية والعالمية.


يعود بعض هذا المدى الواسع الذي وصل إليه بريسنر إلى تعاونه مع اثنين من مواطنيه ومن أهم المبدعين في الإنتاج السينمائي المعاصر، (كرزيستوف كيسلوفسكي وأجنيزكا هولند)، وهما صانعا أفلام من الدرجة الأولى، وحازت أعمالهما على تميز دولي واسع الانتشار في الثمانينات والتسعينات. وإذا عدنا قليلاً إلى بداياته الجادة في اكتشاف الموسيقى، فقد انجذب بريسنر إلى الموسيقى عندما اكتشف مشهد الملهى في كراكو بينما كان طالبا بالجامعة، وفي نفس هذه الفترة التقى بريسنر بألزبيتا توارنيكا التي قدمها في بعض المدونات الموسيقية التي قام بكتابتها بعد ذلك حيث أضفت على أعماله صفة الحلم بتلوينها الصوتي. لكن بدايته كانت في عام 1977 حيث بدأ بتأليف موسيقى لملهى كراكو المشهور المسمى (بيونيكا بود بارابنامي) وتعني هذه التسمية (القبو تحت الكبش)، وبعد سنتين بدأ بالعمل في التلفزيون وبعض الأفلام البولندية. وتعاونه مع كيسلوفسكي بدأ في عام 1984 بفيلم (لانهاية). حيث التقى بريسنر بكيلوفسكي في منتصف الثمانينيات بينما كان الأول يكتب موسيقى لفيلم أنتوني كروز (تقرير الطقس).


عادة يقوم بريسنر بتأليف الموسيقى للفيلم في الفترة التي تكون فيها المخطوطة الأولى للسيناريو مازالت في طور الكتابة، وهو عادة يشارك أيضا في جزء من مونتاج الفيلم. غالبا ما تكون يده التي تقوم بكتابة الموسيقى تحتضن اليد التي تقوم بكتابة السيناريو في نفس الوقت، فتذهبان معا إلى الإتقان.. بالإضافة إلى ذلك فقد كتب بريسنر موسيقى لأفلام تم الانتهاء من كتابتها. الواضح أن موسيقى بريسنر ترتبط برابط قوي مع أفلام كيسلوفسكي، مع أنه قام بتأليف موسيقى أفلام لمخرجين آخرين أمثال لويس مال، أجنيزكا هولند، أنتوني كروز، لكن في تعامله مع كيسلوفسكي نستطعم رؤية جديدة في وجهة النظر التي يطرحانها معا بمنتهى السلاسة.


أبدع مؤلفاته العشرة لعمل كيسلوفسكي الجريء والمتحدي (الوصايا العشر) عام 1988، وهو سلسلة من الأفلام المستندة إلى عشر وصايا، تتضمن مجموعة من الملاحظات للاستعمال المحدود بعيداً عن القوة، (الوصية الخامسة/فيلم قصير في القتل). وفي نفس الوقت عمله مع أجنيزكا هولند بدأ بعملها الدرامي السياسي (أن تقتل كاهنا) عام 1988 حيث قام بإعداد موسيقاه وبتلحين أغنيته، واستمرا معاً حتى وصلا إلى العمل الذي حاز على النجاحات الدولية (أوروبا، أوروبا) عام 1991، و (أوليفر..أوليفر) عام 1992، وبإعادة صياغة قصة الأطفال الكلاسيكية (الحديقة السرية) عام 1993، حيث قام بتأليف الموسيقى وتلحين الأغنية لهذا الفيلم.

حاز على جوائز متعددة في التسعينات من جمعية نقاد الأفلام في لوس انجلوس، فقد أظهر بريسنر كفاءة باهرة في اللعب على نفسيات وتفكير الدول من خلال شخوصه وأبطال أفلامه بتآلفاته المتنوعة، العميقة والذكية، و في ترجمته لمشاعر الولع المعقد والقوي الذي يندفع خلال ثلاثية كيسلوفسكي: ثلاثة ألوان (أزرق 1993، أحمر 1994، أبيض 1994) ومع جهود هوليوود بفيلم (عندما يحب رجل امرأة) عام 1994.


كان بريسنر يشتري مدونات من التي كتبت على هيئة (بارتاتورات) وهي عبارة عن المدونة الكاملة بكل تفاصيل الموسيقى والألحان التي كتبت لكل آلة، وتعلم كتابة الموسيقى بأخذ الموسيقى على هيئة أجزاء على طاولة كتابته.


كمؤلف موسيقى، هو عاطفي لأقصى درجة، يعشق الموسيقى الرومانتيكية وبشكل خاص يعشق المؤلفين الرومانتيكيين البولنديين وأيضا باجانيني وسيبيليوس. أسلوبه في التأليف يؤكد أهمية اللحن (الميلودي) في الموسيقى التي يتناولها، ويعتبر الموسيقى الحديثة التي تفتقر إلى اللحن كالموسيقى الاصطناعية، وهو ببساطة لا يحبها ولا يكن لها أي عاطفة.


فيلم (الحياة المزدوجة لفيرونيك) عام 1991 كان بمثابة الضربة الكبيرة لبريسنر. فموسيقى الكونشرتو الرائعة في (مقام مي الصغير) لمؤلف موسيقى هولندي، (فان دين بدينماير) كان أكثر الألغاز غرابة حيث أنه ليست هناك كلمة واحدة كتبت عنه في تاريخ الموسيقى. بالطبع اسم المؤلف (فان دين بدينماير) كان مجرد شيء ما سحبه بريسنر من قبعته السحرية، فهذا المؤلف هو الذات الثانية لزبيجنيوف بريسنر حيث ابتكر هذه الشخصية مع المخرج كيسلوفسكي لهذا الفيلم.


خلال العقد الماضي كتب بريسنر موسيقى لسبعة عشر فيلما تقريباً. لم يتسن لبريسنر الذهاب إلى العمل مع كيسلوفسكي على مشروعه الأخير الذي يستلهم عنوان رائعة الإيطالي أليجيري دانتي (ثلاثية حول الجنة والجحيم والمطهر). فقد مات كرزيستوف كيسلوفسكي في 13 مارس عام 1996. عندها طلب روبرت تمبل من بريسنر أن يقوم بإعداد أوبرا لكي تقدم في لندن لتأبين هذا المبدع الراحل، فكتب عملاً أسماه (قداس إلى صديق).


عندما قمت بمشاهدة ثلاثية كيسلوفسكي واستمعت إلى الموسيقى التي قام بتأليفها بريسنر، بدأت بالبحث عن أي إصدار لهذه الموسيقى، لكن دون جدوى، إلى أن فاجأني أحد الأصدقاء باقتنائه نسخة أصلية لموسيقى فيلم (أزرق) الذي قامت ببطولته جولييت بينوش وقد كان من أجمل أفلام هذه الثلاثية، فدخلت في مساومة حادة على كل ما أملكه من مقتنيات ممكن أن تغري هذا الصديق، إلى أن توصلت إلى شيء يحبه (بعض التماثيل الأفريقية الصغيرة كنت قد اشتريتها في إحدى الرحلات الموسيقية السبع)، فبعد موافقته حصلت على نسختي الأصلية من هذه الموسيقى، ودخلت في غيبوبة الاستماع الدقيق للموسيقى. الواضح من أسلوب هذا المؤلف المبدع في موسيقى فيلم (أزرق) بشكل خاص هو أن الفيلم يحتوي على ثلاثة ألحان رئيسية (ثيمات) فقط لا تتعدى مدة كل لحن الثلاثين ثانية، ويقوم هو باللعب والتلوين على هذه الألحان وتطويرها بما يسمى في الموسيقى (فارييشن) أي تنويع.


وقد تألقت أوركسترا (سيمفونيا فارسوفيا) وعازف الفلوت جاك أوستاسزفسكي، وجوقة (سيلسيا فلهارمونيك) الغنائية وعازف البيانو كونراد ماستيلو، وطبعا الزبيتا توارنيكا بحضورها المميز. إلى جانب انه لم ينس أن يدس بين المؤلفات الموسيقية لفيلم (أزرق) عمل واحد وكان على هيئة (البوليرو) الذي جاء فيلم (أحمر) أدرجه بريسنر في هذا الإصدار الذي قام هو بانتاجه مع هالينا لاكياك كي يجعلنا نبحث عن موسيقى هذا الفيلم وندخل في مساومات أخرى ربما نستغني فيها عن مقتنيات أكثر أهمية.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page