top of page
محمد حداد

بتوزيع زيمان الذي أسر الحضور.. نور القاسم تضيء المكان بأناملها


كعادتي ذهبت مبكراً مع مجموعة من طلبتي الأصدقاء وصديق روحي حسين، لكن صديقي النادر أبو قيس لم يأت معي فقد كان يحتفل بعيد ميلاده في مكان ما. دخلنا إلى القاعة التي بدا عليها الوحشة إلا من طاقم التصوير الذين نثروا كاميراتهم في المكان كي يوثقوا هذا الحفل في انتظار عازفة البيانو نور القاسم، التي سعدت حقاً باقتسام رحلة موسيقية الى خارج البحرين معها، حيث لمست في الرحلة شغف هذه الفتاه بآلة البيانو و فريدريك شوبان على وجه الخصوص. حيث كان ثلثي كلامها عنه وعن موسيقاه التي حقاً تأسر الجميع، والثلث الأخير من كلامها كان على هيئة أسئلة عن أماكن تواجد الأعمال التي كتبها شوبان والبحث عن الأفلام التي تتناول سيرته!!


يبدأ أصدقاء الموسيقى (أصدقاء نور) بالدخول إلى القاعة وكنت أزداد دفئاً كلما دخل شخص آخر إلى القاعة. فحفل كهذا عادة يكون زواره قليلون، لكن تلك الليلة كان الحضور فيها يثلج القلب، فهذا الحضور الكثيف كان تأكيداً على مساهمته في تتويج هذه العازفة المحتملة.

كان التقديم الذي سبق الحفل منصفاً في سرد مشوار نور القاسم الموسيقي، لكن في نفس الوقت غيب حضور الفرقة التي لها سيرة مشرفة أيضاً بقيادة الرائع خليفة زيمان، ففي اعتقادي انه لو طبعت السيرة الذاتية في كتيب، لكان جميلاً أن نخرج من الحفل ونحن نملك سيرة هذه الفتاة التي تبشر بإبداع يرفع اسم الموسيقى في البحرين وخارجها، إلى جانب نبذة عن فرقة البحرين للموسيقى التي قامت بمجهود كبير.


لا أعرف من أين أبدأ! فالإبداع يسكن كل جوانب الحفل، فتألق نور التي ما إن تجلس أمام البيانو حتى تزداد توهجاً، ونلمس في نغماتها ثقتها الكبيرة بما تفعل (مع أنها دائما تكون خائفة خلف الكواليس) إلا أنها تغيب عن المكان مع حركة عصا المايسترو زيمان، فتسكننا أناملها، ونلاحظ الابتسامة التي تخنقها محاولة تأجيلها حتى تنتهي من العزف كي تمعن في نثرها في الأرجاء وكأنها تقول (شكراً لأنكم مازلتم هنا).


استطاعت نور من خلال عشقها الذكي لموسيقى فريد الأطرش بالتعاون مع خبرة المايسترو في التوزيع الموسيقي أن تخلق أعمالاً أكثر نضجاً من ناحية الأداء وخصوصاً في التوزيع الموسيقي الذي كان له حضور طاغ في هذا الحفل، فالتوزيع الموسيقي كان منافساً لذيذاً لأنامل نور ومشاكساً لها في كثير من الأحيان، فكانت تتغلب عليه حيناً وتفسح له التألق أحياناً أخرى. كان توزيع موسيقى أغنية (قلبي ومفتاحه) التي كتبت بشكل مختلف عن باقي الأغنيات مميزاً ويدل على حس مرهف ومعرفة كبيرة بعلوم الكتابة لموسيقى الحجرة، حيث انتقى زيمان العازف عماد على آلة الكمان وطارق محتضناً التشيللو والغانم الذي تألق في هذا الحفل بآلة الفلوت الحالمة والتي كان له مساحة شاسعة من الجمل الرائعة متجولاً بين حنايا المقطوعات الموسيقية برشاقة، وثامر مع آلة الكونترباص التي كانت تقيس النبض للأمسية، وكان ضيفي الحفل المتألقين وجيه وجمال على آلاتهم الإيقاعية، فليعذروني لأنني ذكرت أسمائهم الأولى فقط، فإنني أجد في ذلك حميمية أكبر في التعبير عن مدى إعجابي بهم.. ستة من المبدعين يصاحبون نور في هذه الأغنية التي تتقمص الأسلوب اللاتيني في توزيعها والتي كتب لها زيمان ألحاناً مضادة في منتهى الذكاء والشفافية التي تميز بها دائماً.


لكن في منطقة أخرى من الحفل نجد أن البيانو لا يأخذ الدور القيادي للعمل بل يكون آله مصاحبة كبقية الآلات ويشارك الفرقة كجسد واحد في تنفيذ الصياغة الجديدة لهذا العمل وساعد في ذلك أن هندسة الصوت الخاصة بالصالة لواحدة من آلات البيانو كانت غير موفقة. وعندما نصغي إلى (قديش كان في ناس) و (نحنا والقمر جيران) إلى جانب (شادي) فإننا نجد أن زيمان أبدع في كتابة الألحان المصاحبة لهذه الأغنيات وجعل منها مؤلفة موسيقية تكاد تنسينا أن هناك كلام مفقود (مع أننا كنا نتغنى بالكلمات مع الموسيقى وقتها) لكن قوة وكثافة الكتابة للآلات الموسيقية تجعل الحضور الآلي كبير ويتحول الحضور الغنائي إلى (نوستالجيا) تداعب الذاكرة الفيروزية بداخلنا، فبعد زياد الرحباني وتجربته (إلى عاصي) توقعت أنا شخصياً أنه من غير الممكن أن يتجرأ أحد على توزيع الرحابنة، ليس خوفاً بل لأن زياد استنزف جميع السبل للدخول إلى موسيقاهم، لكن زيمان أثبت بأنه مازال هنا طرقا لم تطأها يد موزع. في نفس الوقت أثبتت نور أنها قادرة على أن تجعل مناً مستمعين جيدين لآلة البيانو، وباحترامها لهذه الآلة وعشقها لشاعر البيانو (شوبان) الذي أبدعت فالسه الناعم ووعدتنا بارتجالات لحنية لكنها حرمتنا منها في نهاية الحفل، لكن أهدتنا (وياك) كي تؤكد لنا بأنها سعيدة بحضورنا..


بكل هذه الطقوس جعلتنا القاسم شغوفين بهذه الآلة، وسننتظر حفلاً آخراً كي ترضي شغفنا، بأن تقدم لنا أعمالاً لا تقل روعة عما قدمته لنا في هذه الأمسية. الجميل في هذا الحفل الذي أعلن نور كعازفة بيانو بحرينية محترفة هو أن جميع الأعمال التي قدمت معروفة وسمعناها من قبل، لكن الشكل المختلف الذي قدمت به أعطاها طابعاً مميزاً، بتحريض من نور القاسم، متورط فيه وبجدارة خليفة زيمان، بالتواطؤ مع نخبة من العازفين الذين شرفوا الحفل بوجودهم وأناملهم. فتحية لإبداعهم.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page