top of page
محمد حداد

ناسك بلا محراب.. ظافر يوسف يرسم هويتنا على هواه


بقلم: محمد حداد

"النفس الأخير لي .. سيكون أيضاً بالعربية"


كانت هذه كلمته في إحدى إصداراته.. بلا شك أن تجارب المؤلفين وعازفي العود العرب تتشابه في البحث المتواصل على الخيط الرفيع الذي تلتقي فيه الموسيقى العربية والغربية، ثم البدء في محاولات لصياغة أعمال تثري التجربتين. لكن بالنسبة لي فإن تجربة ظافر يوسف القادم من تونس والذي وجد في النرويج مسكناً يحترم محاولاته في البحث المستمر عن الموسيقى الطقسية وفي نفس الوقت لم تبعده برودة اسكندنافية عن حرارة تونس و الموسيقى الطقسية التي تنضح بها القارة السمراء. تختلف تجربة ظافر يوسف قليلاً عن تجربة المؤلف وعازف العود التونسي أيضاً (والذي سنتكلم عنه في جلسة بوح أخرى) أنور براهم، وتختلف كثيراً عن تجربة اللبناني ربيع أبو خليل أيضاً.


فتجربة براهم اعتمدت بشكل كبير على البحث في منطقة موسيقى الجاز الذي حاوره براهم بشكل مميز خصوصاً في ألبومه (خطوة القطة السوداء)، كما كانت له تجارب كثيرة مع عازف الساكسفون النرويجي (يان جاربيرك) و عازف آلات النفخ المتعدد (جون سورمان) القادم من ديفون وتحديداً من تافيستوك مما يعطي موسيقاه صبغة (موسيقى العالم) التي ستجعلنا ندخل في دهاليز ممتعة للكلام عنها! أما ربيع أبو خليل فقد اقتحم بعوده العربي موسيقى الجاز وخلق ثورة موسيقية وكأنها المشاكسة التي تسبق الحب حيث حاور الآلات العنيفة في هذا الحقل الثائر من الإيقاعات المتنوعة وآلات النفخ مما يجعل شخصية موسيقاه بعيدة كل البعد عما يرنو إليه ظافر يوسف.


فقد جاءت موسيقى ظافر لتخاطب الموسيقى الإلكترونية بهمسها وذبذباتها الرقيقة مع موسيقى الجاز مطعمة بموسيقى العشق الصوفي القادم من شرق العالم العربي وغربه، فنلمس النفس الرافض للحلاج فيها وهو يطلب الصلب والقتل! وفي أحيان أخرى نراه يسرد طفل الطاهر بن جلّون الذي سكن الرمال، وهذه القصة القاتمة التي لطالما أسكرتني خصوصاً بعد ليلة كليلة القدر الرطبة والمليئة بالأجواء المعتمة. وفي أحيان أخرى نراه يسرد أدونيس بلغته الشاهقة.. أدونيس! هذا القاموس الإنساني الذي يستفز اللغة كي تطفر كلماتها شظايا ملتهبة تخترق المستقبل بتاريخ لم نقرأه في الكتب غير (كتابه). فعندما يتصدى مؤلف موسيقي إلى تجربة موسيقية تحاور كل هذا المخزون الأدبي والموروث الإيديولوجي (حيث يلتمس من السلالم الموسيقية الخماسية المليئة بالملامح الأفريقية لحناً و إيقاعاً يوقظ به السحر الأسود الكامن فينا) ودمجها مع آلات لربما تكون بعيدة كل البعد عن هذه التوليفة، كالترومبيت الذي أبدع عزفه (ماركوس شتوكهاوزن).


في البوم (التصوف الإلكتروني)، حيث نسج السديم الإلكتروني له (مينو كنيلو) و (رودريك باك) وبالنغمات المشحوذة لعود ظافر وصوته الذي تتسع له الأحداق والقلوب معاً، كما في تعويذة (يا باي)، وأعتذر لأنني أسميها تعويذة، لأنني أجد صعوبة في تسميتها أغنية، وقد جاءت في نفس الألبوم وهي عبارة عن محاكاة بين صوت ظافر وآلة الجيتار يجتاز فيها حدود المعقول في سيطرته المتقنة لمساحة صوته من حيث التنغيم و النفس الذي لا يمكنني وصفه، فقط أن تستمع له هو الحل الوحيد كي تعرف أن هذا المخلوق يعرف الطقوس التي خلقه بها الرب، ويعرف أسراراً لم نصادفها نحن أبداً. وعند ملاحظتي البسيطة لكل ألبومات ظافر يوسف وجدت أن هناك ما يشبه هذه التعويذة في طلسمها في كل إصدار تشبه عمل (يا باي) التي جاءت في (التصوف الإلكتروني)، فهناك (ترنم) التي جاءت كمستهل لإصدار بعنوان (ملاك) والتي كانت عبارة عن محاورة بين صوته و آلة الباص الغليظة، أما في إصدار (نبوءة رقمية) فهناك (صلاة الفجر) التي توقظك وأنت تستمع له وحيداً مع آلة البيانو وكأنه يؤدي طقس وثني.


ففي ألبوم (النبوءة الرقمية) استطاع ظافر يوسف إدراك المشاعر الغير منطوقة للتعبير عن ثقافتين موسيقيتين. هذا العمل يعتبر أيضاً من التجارب المتواصلة التي تنسج حواراً بين النرويج وبقية العالم. مزيج من الإيقاعات والضروب المُعاصرةِ منسوجة مع الصوت الحميم لآلة العود، إلى جانب الصوتيات التي ينثرها يوسف بين نغماته مع الفلوت البانسوري الذي ينساب إلى داخلك بسلاسة. أما ظهور (بيتر مولفار) مع آلته الترومبيت في المقطوعة السابعة، "متتالية السماء السابعة"، نجد أن وصوله هنا كان جميلاً و حتمياً. وأداء (باج ويسيلتوفت) على آلة الكيبورد فقد كان بمثابة إنقاذ رائع و مبتكر لتلوين الحالة الطقسية التي يسردها ظافر في هذا الألبوم. ومن تجاربه الأخيرة (أودم) ففي هذا الإصدار قدم ظافر يوسف عملاً مشتركاً مع فولفجانج بوسكنج و جاتندر ذاكور حيث قدم كل منهم أعمالاً من تأليفه الخاص. تجربة ظافر يوسف حقاً مختلفة وتستحق وقفة واعية ومتفحصة، فما يقدمه يوسف ليس موسيقى فقط، بل درس في الانتماء و البحث في ذواتنا المنسية و المهاجرة.




RSS Feed