top of page
محمد حداد

مارسيل خليفة.. شخص يصيبنا بالطاووس


بقلم: محمد حداد


يتكلم كأنه الشعر.. في صوته حزن ماثل يستفز آهاتنا، يفضحها فينا و يفضحنا بها. كيف لنا أن نصف من يسردنا في موسيقاه؟ كيف لنا أن نسمي من صاغ آلامنا حرفاً ونغمة؟ شخص (يذهب عميقاً في دمنا) يأخذ من أوقاتنا الضائعة ما يريد وقتما يشاء، فبمجرد أن يمسك عوده، يمسك بنا من جرحنا الذي نلتذ يده عليه، حيث الرعشة تطفر من أجسادنا وهو يغسل الروح و يحرضها بألا تهدأ، وكأنه يرمم ما تلف من أرواحنا لفرط الصمت الذي نلف أنفسنا به متذرعين بالحكمة!


موسيقى لا تنضب.. في ريشته التي يمسكها بأربع من أصابعه تاركاً خنصره لنا كي نتشبث به ونحن ننتظر القطار الذي لطالما خذل أميمه وهي مازالت تنتظر. بهذه الريشة نسج ألحاناً تلبستنا لسنوات طويلة وصبغت أغانينا بنكهة لم نذقها إلا من يده، فشخص (يحرس أحلام الشهداء من انقلاب الكتاب على الأنبياء). ويتقمص أحمد الزعتر ليسرد وصايا البرتقال حيث (كانوا يعدون الجنازة، وانتخاب المقصلة).. ما إن يداعب أغلظ الأوتار في عوده (الدو) بداية النغم ومنتهاه، عندها يذيب أغلظ القلوب في (عودنا) المهترئ المتعب ولا يتركنا إلا عندما يتأكد بأنه أيقظ (اللا) بداخلنا وحررها مدعياً أنها نغمة موسيقية!! فنغمة (لا) عند مارسيل ليست هي التي تأتي بعد (صول) ولا قبل (سي) - مع العلم أن (سي) عند الإسبان تعني (نعم)- إلا أن مارسيل يمعن في غناء (لا) كي يؤكد رفضه (لكل ضمير خادر)، لذلك تأتي نغمة (لا) عنده بعد الصحوة وقبل الموت. فهندسة الرفض في موسيقاه تكون عفوية لدرجة أنه في أغنية منتصب القامة، نراه في تلحين الجملة التي تقول (وعلى كتفي نعشي) يريح كلمة (نعشي) ويهندسها على نغمة (مي) الشرقية الحادة أو ما يسمى جواب (سيكاه) التي تحمل ملامح الألم العربي وموسيقى الموت اليومي لنا، ربما تكون صدفة لكنها قدر أيضاً، فرؤى مارسيل وجدت بأن أفضل مكان للنعش هي الملامح العربية في الموسيقى.


شخص استطاع أن يلحن نشيداً إعتبره نشيداً وطنياً يجمع شعوب الأرض السمراء كلها وكلهم، ونراه أيضاً (يتباهى بجرح المدينة) الذي يتأجج فيه وفي ميادينه التي لازمته في مشواره منذ كان يطلب من الموتى أن (يعودوا فقراء كما كانوا)، لأنه لم يقتنع بموتهم. و(الميادين) تتغير لكن مارسيل يظل يقودهم بنفس الوهج والولع، فحيناً تمطرنا سماؤه بنار (الخبز والورد) في موسيقى محمومة تتأجج فينا، وأحياناً يفاجئنا (بمداعبة) العود والكونترباص في أكثر أنواع الموسيقى مشاكسة..


أميمه الخليل، رامي خليفة، بشار خليفة، شربل روحانا، عبود السعدي و بيتر هربرت أسماء لازمت مارسيل في معاركه الموسيقية والغنائية، التي حاول من خلالها أن يوضح لنا بأن ما نستمع إليه ليس هو كل شيء! وأن المؤلف الموسيقي الذي يسكن مارسيل آن له أن يخرج الآن ويثير (الجدل) بيننا ولن يوقفه أحد، فالوقت لازال مبكراً. لقد تأخر هذا المؤلف لظروف خارجة عن إرادته، فالوطن أولاً بالنسبة له. لكن الشخص هو الذي يصنع الوطن، فاخلعوا ذاكرتكم (المخرومة) بقوانين الأسلاف الموسيقية، وأفسحوا الدروب لوطن مقترح كي تصبحوا عليه، ولا تنسوا أنه قال ذات قتل (تصبحون على وطن)، ولا ننسى أن نقول له (وأنت من شعبه). يرصد الأطفال.. يغني لهم ويغني عنهم، يهدهدهم وهم ينامون أو يموتون، ويفضح تساؤلات محمود درويش بنغمات تجعل العود يبكي محمداً.. (الدم الزائد عن حاجة الأنبياء لمن يريدون!).


يدخل في مواجهة مع الأوركسترا بأكثر الأعمال الموسيقية رقة ونعومة: من منا لا يعرف البنت الشلبية، هذه الأغنية الغارقة في الرومانسية التي سمعناها من ارق المخلوقات على هذا الكوكب.. فيروز. كيف استطاع أن يحولها إلى لوحة موسيقية يتقمص فيها العود اللون الأساسي في محاورة كل هذا الجيش من الآلات بألوانها المختلفة، النحاسية والوترية وأكثر الآلات الإيقاعية جلالاً -التيمباني- يفتح لنا بكل جرأة نافذة على منطقة تؤكد بأن في الموسيقى كل شيء ممكن، فالحواجز الوهمية التي نراها بين الغرب والشرق لا توجد إلا في مخيلاتنا الخائفة والمخذولة لفرط الجلاد الساكن فينا. أما بالنسبة للجحيم الذي رافق ركوة العرب (التي عادة يرافقها شيء حلو كي يكسر مرارة قهوتها) يتأكد لنا بأن أخوتنا لا يحبوننا، وأن يوسف مازال يلهث فينا ولن يهدأ.. مارسيل لا يطلب الحرية من أحد.. بل يمنحها لمن يريد. كيف لي أن اصف كل هذا الفيض الإنساني الذي يقول عنه طلال حيدر: (وكأن عنده ثأر مع الدنيا)؟


متنوع لأنه يصغي.. فعندما تسمع موسيقى (ثنائي الحب) على بساط الريح تعرف بأن مارسيل كان يصغي إلى جسدين في الحب، وأنه ترجم ميزانهما الإلهي إلى نغمات، كما كان يصغي إلى أجساد فرقة كركلاً كي يقدم الفردوس المفقود. متنوع ومتناقض لدرجة أنه يستطيع أن يشبه كل واحد فينا، حيث لا يمكن لشخص يتقن رقصة الغجر أن يخاف من القمر. فالقمر هو من يفضح للغجر دروبهم وهو أنيسهم الذي لا يخذلهم أبداً. كيف لي أن أصف من أعلن نفسه نشيد الذي لا نشيد له؟ في مواجهة مع مارسيل لا فرصة لنا إلا للإصغاء....


شخص كثير علينا، وقليل دائماً ما نقوله فيه.

RSS Feed