top of page
  • محمد حداد

الإنتاج الفني.. شظية في كتف الموسيقى 1



بقلم : محمد حداد


من الأمور التي تؤرق تفكير كثير من الفنانين الذين يحملون الهم الإبداعي ويحرصون على تطوير الحركة الموسيقية والغنائية في العالم العربي هو الإنتاج الفني، الذي يعتبر المرحلة الحاسمة في المشروع الإبداعي. الإنتاج هو المنطقة التي لازلت شخصياً أجهل تفسيرها في الوسط الموسيقي للعالم العربي. ففي مراحل مختلفة من البحث في أمور نجاح الحركة الموسيقية وفشلها، صادفت الكثير من العوامل التي أدت إلى فشل تجارب موسيقية وغنائية بسبب التفكير الفردي للقائمين على المشاريع الإبداعية، مما يجعلنا نشك في كل ما يرتبط بالتجربة وهذا جدير بأن يجعلنا متأهبين لأي زلة كي نتداركها.


ففي العصور الموسيقية السابقة كعصر الباروك والعصر الكلاسيكي وحتى النصف الأول من العصر الرومانتيكي، كان المغنون يفرضون شروطهم على الملحنين بشكل يفسد الأعمال الغنائية وخصوصاً فن الأوبرا، حيث شهرة المغني وغروره يجعلانه يفرض لصوته حيزاً أكبر مما هو مطلوب في هذا العمل بشكل غير مبرر، بل أحياناً يعود بشكل سلبي على دراما القصة المؤلفة، فمثلاً أن يكتب الملحن وصلة غنائية منفردة (ما يسمى Aria) ينفرد فيها البطل وهو يتغنى بمدينته الجميلة-التي في هذا الموقع من التفاعل الدرامي تكون غارقة في حريق كبير على سبيل المثال، ربما يبدو المشهد مقنعاً موسيقياً، لكن درامياً لا يمكن تقبله، ففي الوقت الذي تكون فيه بلدته محتاجة إليه كي ينقذها من الحريق كونه هو البطل، يظل هو يغني واصفاً جمالها وحبه الكبير لها، وغالباً ما يكون اللحن بطيئاً ومليء بالزخارف اللحنية التي لا تتناسب والنبض الدرامي لهذه المرحلة من القصة (فالآريا لحن يقدم في ذروة العمل الأوبرالي وفيه يعلق البطل عن أحداث الأوبرا وعن مشاعره)، ويكتب بطريقة تظهر إمكانيات المغني وقدرته على إيصال أكثر التعابير اللحنية صعوبة، كل ذلك كان جديراً بإضعاف النسق الدرامي للعمل الأوبرالي، مما أدى إلى ظهور جماعات تطالب بالتمرد على هذه الهيمنة التي يقوم بها المغنون لفرض مساحة أكبر لهم في الأعمال الإبداعية باختلاف أنواعها دون التفكير في المصلحة العامة للعمل نفسه وأخذ رأي جميع أقطابه من موسيقيين وشعراء.


ومن المواقف التي مر بها (شوبان) بعد هروبه من بلدته بولندا لأمور مشرفة حقاً جعلته يسجل موقفاً سياسياً مبكراً نظراً لصغر سنه، وكان وقتها ليس مشهوراً حيث أخذه أستاذه (الذي هرب معه إلى فرنسا) لمتعهد حفلات كي ينظم له أمسية موسيقية، لكن المتعهد رفض ذلك بحجة أنه غير مشهور وهو لا يستطيع المجازفة بماله على شخص ليس له جمهور، وأثناء المناقشات داخل مكتب المتعهد يسمع صوت عزف على البيانو في الصالة الخاصة بمكتب المتعهد وعند خروجهم يفاجئون بالمؤلف (فرانز ليست) الذي كان في قمة شهرته حينها، وهو يعزف المدونة التي وجدها على البيانو وعندما سأل من مؤلفها أجاب شوبان بأنها من تأليفه... عندها فقط وافق المتعهد على تنظيم أمسية له!


من هاتين التجربتين الطاعنتين في القدم نرى كيف تنسل الرغبات والنوايا الخاصة والشخصية لتستوطن في أحشاء التجربة وتتدخل في أدق التفاصيل لتنفيذ مآرب ليس لها علاقة بالعمل الإبداعي.


في زمننا الحالي نرى شيئاً مشابها لهذه المواقف ولكن الأسماء تختلف. فهناك ما يسمى (مؤسسات الإنتاج الفني).. ففي الغرب وظيفة المنتج الفني تختلف عنه في الشرق أو بالأخص في الوسط الفني العربي، فالمنتج هناك هو شخص يقوم بتأليف الأعمال الموسيقية أو ربما موزع موسيقي يكتب أعمالاً للأوركسترا وفي بعض الأحيان يكتب الشعر أو يغني، فإذا تصدى شخص مثل هذا إلى تجربة إنتاجية يكون مؤهلاً للدخول في أدق التفاصيل الخاصة بهذه التجربة الإبداعية، فيشارك المنتج الفني في اختيار العازفين لكل مقطوعة موسيقية في هذا الإصدار، حيث أنه صاحب خبرة في الألوان الموسيقية والعازفين المتميزين، وتتعدد إمكانيات المنتج الفني وتتطور إلى أن يصبح مؤسسة تتكون من طاقم فني متخصص، يهتم كل قسم في هذه المؤسسة بمجاله، حيث القسم الذي يهتم باختيار الشعراء وتوجهاتهم الشعرية وتقديم أعمالهم للأشخاص الذين ينتقون بعناية الموسيقيين والمغنين الذين يجمعون بينهم عن طريق العقود التي تهيئ لهم جواً مناسباً للإبداع، مروراً باختيار مهندسي الصوت والتعاقد مع الاستوديوهات لتدشين هذا العمل الفني.. خلية متكاملة من الطاقم (المتخصص) في عمله..


طبعاً لا أنكر أن كثيراً من التجارب الموسيقية والغنائية العربية التي نجحت بسبب إشراف طاقم متفاني في عمله ومتخصص في انتقاء أفضل العناصر الجديرة بتجربة كهذه، فتجربة فيروز (على سبيل المثال لا الحصر) سواء في اشتغالها مع الأخوين أو ابنها زياد أو حتى تجاربها المتفرقة مع فيلمون وهبي أو زكي ناصيف وغيرهم، كانت تجربة مشرفة حقاً وتدل على ذوق فني وإخلاص للمادة المقدمة في التجربة الغنائية وقد كان اسم عبدالله شاهين وأولاده أو صوت الشرق كمنتجين ملازماً لمشوار الرحابنة لفترة ليست بالقصيرة وهذا دليل على تجربة مدروسة وموفقة في رسم المشاريع الفنية لصوت نادر كصوت فيروز.

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page