top of page
  • محمد حداد

الأب، والإبن، والروح الحائرة



بقلم : محمد حداد


بدأت طفولتي في البحث الساذج عن (جاسم) الذي كان غائباً عني في سن مبكرة جداً كان عمري وقتها سنة ونصف تقريباً حين ابتدأت بالتحديق في كل رجل يمر بالقرب من شارع بيتنا بالمحرق علّه يكون هو أبي، ثم بتوجيه الأسئلة المستفزة لأمي التي لم أكن واعياً تماماً لما تمر به من ظروف قاسية لا يطيقها نبي ولا يسعها كتاب ويستعصي على الآلهة غفرانها، حيث كنت أرفض ردودها المطمئنة معززة كلامها بـ(صورة ليست ملونة) وضعتها بالقرب من سريري مؤكدة لي بأن (أبوك) هو من في الصورة. لم أكن مقتنعاً بما تقول. إلى متى سيظل بهذا الشكل؟ لم أكن أعرف بأنه سيظل بهذا الشكل إلى أن يصبح سيده (الذي لا ينحني للشكل).. إنحنى مرة.. كي يحنو علينا فقط!


في الوقت الذي كان فيه قاسم غائباً، كانت الأم تغزل مستقبلي ومستقبل أختي بخيوط عرفت خاماتها وندرتها فيما بعد. وعندما عاد بدأ في سرد تاريخه لي فجيعة تلو الأخرى، ومازال يسرد الى اليوم.. أصبح التاريخ مستقبلاً والفجائع لم تنضب. وأظن أنها لم تنضب لأن التاريخ أصبح مستقبلاً.


لوجودي في بيت شاعر بهذا الحجم أثر يشبه بقايا النبيذ تحت اللسان، حيث انسكب الشعر في قلبي دون أن أشعر، فقد كانت أمي توقظنا صباحاً بالشعر والغناء الفصيح، حواراتنا معاً تفوح منها رائحة الشعر، إضافة إلى أننا كنا نستقبل التوبيخ بالشعر أحياناً !! ولا أنسى اللوحة الهائلة الحجم بالنسبة لي وقتها (فقد كنت ضئيلاً بشكل يستعصي على الوصف) للشاعر بدر شاكر السياب التي رسمها الفنان عبدالله يوسف والتي تتوسط المكتبة في بيتنا الأزرق بالمحرق، حيث ملامحه الممزوجة بالحزن القريب من حسرة الأنبياء، كما كنت أحفظ مطلع قصيدة "أبجدية القرن العشرين" من ديوان قاسم الأول حيث لم يتجاوز عمري وقتها الخمس سنوات، والتي تحفظها الآن حفيدته الأولى بنفس العشق الغير مبرر لهذه الكلمات، فهي بمثابة الدرس الأول في التحريض على جحيمنا الصغير. طبعاً كل هذا كان جديراً بأن يخلق بداخلي حساسية نوعية نحو هذا النوع من الأدب، وقد كنت أشعر بلذة كبيرة عندما يحضرني بيت من أبيات قاسم / وأنا منهمك معه في حوار أشبه بالخلاف/ يفسر ما يدور في ذهني أو يوضح وجهة نظري فيما أقول أو يدخل بشكل استفزازي يفتح مرايا أخرى لهذا الحوار.


مررت بمرحلة طويلة كانت تستهويني فيها أشياء أخرى غير القراءة مثل الموسيقى بشكلها المجرد، فقد تعلمت الكلام مع موسيقى ديبوسي وفاجنر وبرامز التي لم تتوقف عن الدوران في الجرامافون المدفون بين الكتب في مكتبته.. لكن بما أنني أسكن في بيت هو أقرب إلى المكتبة الدافئة منه إلى البيت، فقد تعثرت بكثير من العناوين التي شدتني للقراءة، فبدأت مشوار البحث عما يستهويني من الكتب، فكنت أصادف في كل غرفة كومة من الكتب، كان هذا الشيء يستفزني ويستدرجني للتنقيب فيه إلى جانب المكتبة الرئيسية التي تحوي طقساً متفرداً لا يستطيع فكه إلا قاسم نفسه، حيث هناك مختبره الذي كتب على بابه (لطفاً الكتابة تحلم.. لا توقظها). منحني كل هذه التفاصيل لكنني فهمت متأخراً..


لي ملاذ آخر غير الموسيقى، هو الحب.. وهذا من الأشياء التي علمني إياها قاسم منذ سذاجة أحلامي حيث كان يشحنني حباً كل يوم ويفتح لي الأبواب ويقول: اعشق ما استطعت.. ولا تتوضح إلا في الحب.. ولا تهتم. فوجدت في الحب والموسيقى عالماً لا يمكن أن أتفاداه، فدخلت (مرايا الأحلام وكنت سلام الماضي للحاضر.. رأيت الأشياء تعلمني) كما كان يقول في "قيامته". ومازالت هذه (الأشياء) تعلمني ولن أكف عن تقمص دور التلميذ المشاكس.


لقد غبت عن أبي لمدة سبع سنوات وهو غاب عني ما يقارب الخمس سنوات، فهناك اثنتا عشرة سنة مفقودة بيننا، مما كان لها أثراً كبيراً في صياغة العلاقة بيننا. وكان يقول ذات بوح بأنه يشعر أن القدر يعاقبه بالسبع سنوات التي سافرت فيها إلى القاهرة على الفترة التي قضاها بعيداً عنا!! لم يعرف بأن غربتي كانت امتداداً لغرفتي، فقد وجدت فيها ورشة شحذتني كي أكون جديراً بأن أحمل إسماً كإسمه!! لقد صاغتني هذه (السنون) بشفافية لا أكاد أصدقها، فتشكلت حروفي وآرائي من خلال الكتب التي سرقتها من مكتبته قبل سفري للقاهرة.. لم يعرف انني سرقت (الطوطم والتابو لفرويد، وبحث المقصلة لكامو) في ذهابي الأول، الى جانب قراءتي لكتابه (الجواشن) الذي صاغه مع أمين صالح قراءة متأنية وقمت بنسخ مقاطع كثيرة بيدي كي تكون جوشني الخاص الذي كان يحرسني في غربتي الأولى.


كثيرة هي المرات التي كنت أضيع فيها بين مرايا قاسم ولا أريد العودة. لكني أعتقد بأن قاسم حين يكتب شعره فهو يخاطب النبض قبل العقل و (القلب يفطن قبل العقل أحياناً) وقال لي ذات قصيدة : (الرؤية ليست في العين، الرؤية في القلب).


أرى قاسماً في ثلاث مرايا:


فقاسم الأب: حاول (وأعتقد بأنه نجح) بأن يؤكد لنا أنا و أخوتي أن بداخل كل واحد منا (يوسفاً)، وأنه ليس هناك صديقاً ألد من الذئب، وأخبرنا بأنه قد تخلص من قمصانه كلها كي لا يكون عرضة للتأويل. علمني أن أنتقي أعدائي بعناية وثقة.


قاسم الإنسان: رأيت فيه رجلاً (مزج الحلمة بالحلم)، يمسح الأخطاء بسهولة الكاهن. قادر على أن يحب كل شيء، لكن جسده لا يسعف روحه..


قاسم المبدع: الذي ينثر أشياءنا ويظل يرقبنا ونحن نرى.. يكتب قصائده في دفاترنا ونحن نرى.. يقول كلامنا الذي لا نجرؤ، ونحن مازلنا (كأننا نسمع.. كأننا نرى).

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page