top of page
  • محمد حداد

عندما يكون الإيقاع سيد المكان


لأنني أعشق رقصة التانغو حيث موسيقى التانغو التي تسرد العشق والألم في الوقت ذاته مترجماً على أجساد الراقصين، فنحن نعرف بأنه لا يكتمل التانغو إلا بوجود شخصين كما يقول المثل (Two to Tango)، فهذا الإلحاح الفلكلوري على ضرورة وجود الشخصين معا ليسردا صورة ملتهبة للحب حيناً وللألم أحيانا، ما هو إلا تأكيد بأن هذه الرقصة ليست إلا صورة مختصرة و مكثفة لحياة صغيرة مليئة بالتحولات (والحياة لا تكتمل إلا بالثنائيات).


ولأنني أعرف بأن موسيقى الفلامنكو، هذا المزيج الموسيقي الثائر على كل المسافات الموسيقية و الجغرافية معاً، حيث يرسم طريقه من خلال المقامات الغجرية التي تنثر الملح في جرحنا القديم فنتذكر (الفردوس المفقود) الذي لا نعرف هل كنا جديرين به، أم أننا تركناه لفردوس أجمل، هذا الأندلس الذي لا ينتهي فينا، وليس غريبا أن تكون كلمتي (Endless) و (أندلس) متشابهتين في النطق و المنطق.

لذلك لم أستطع تفادي تجربة تحتوي الفنين معاً وكنت أتساءل: كيف سيكون الربط بينهما؟


ضربات متتالية ومتسارعة في الظلام تعلن بدء الطقس الغجري حيث يتناوب الراقصين في الدخول متشحين بالسواد، والإيقاع سيد المكان حيث تجده في التصفيق و ضربات التاب العنيفة (ضرب القدم في الأرض بشكل إيقاعي) و نغمات الجيتار المحرضة تشحن الموقف نبضاً و ثورة إلى أن يتغير المقام الموسيقي والإيقاع يتحول ويتغير إلى أن يلبس إيقاع (Bolaria) الذي يعتبر من أشهر ضروب الفلامنكو الغجرية، ومع هذا الإيقاع يتم فضح العازفين الذين كانوا مغلفين بالظلام. يتموج الراقصون وهم يختفون في الكواليس فتبدأ الأوبوا (آلة نفخ خشبية) بعزف مقام يمسنا بأبعاده الشرقية ممهداً لرقصة صولو (منفردة) لأحد الراقصين مكونة معه ثنائياً للجسد والنغم، ويفرش لهما التشيللو نغماته التي تحتضن صوت الأوبوا الحاد وجسد الراقص الغض، يداعبهم صوت الفتاة الغجرية وهي ترمي كلماتها المبهمة (بالنسبة لنا طبعاً) وكأنها تنهر الجسد كي لا يكف عن البوح بما يشعر ولئلا تأخذه الغفوة.


بعد هذه اللوحة المتألقة تغني غجرية الصوت معلنة دخول الراقصات وكأنها تذكر أسمائهن واحدة تلو الأخرى إلى أن تبدأ رقصة خماسية نلمس فيها نعومة الفتيات من خلال الموسيقى التي تنسجها آلة الجيتار وحركات المراوح الإسبانية. تأخذنا هذه اللوحة إلى مناطق متغيرة بتغير الإيقاع المبهج حتى تتعب الفساتين التي تمنحها الراقصات بعضاً من السكينة (على طريقتهن الخاصة).

من الرقصات الملفتة أيضاً في هذا الحفل هي رقصة منفردة لفتاة مغطاة بالقماش وكأنها جنين يصارع للخروج من هذا الصمت، ولكن برشاقة تستطيع الخروج حيث تتحاور مع هذه القطعة الجميلة من القماش و كأنهما حبيبين، وعلى صوت الغجرية و الدرامس تبدأ أغنية يشاركها فيها الرجال ثم باقي الفتيات يصحبهم البيانو الذي يذكرنا (ولو قليلاً) بالعازف ديفيد بينيا دورانتس الذي طعم الفلامنكو بالجاز بعزفه المميز على البيانو، وأيضاً كان حضور آلة (الكاخون – Cajon) مميزاً بشكل كبير فلا تكتمل أمسية غجرية بدونها، فهذه الآلة دائما تبعث عندي تساؤلاً كيف تم إدخالها لهذا الفن وكيف كانت البداية؟


يخرج الراقصين من الخشبة تاركين عازف الجيتار وحيداً في عمق المسرح وكأنه يضمد جراح آلته بلحن كئيب وعلى ضوء خافت، إلى أن يختم بتآلف موسيقي يستلمه منه عازف آخر في مقدمة المسرح مع المغنية حيث يسردان معاً أغنية تنضح ألما وولعاً إلى درجة أن تترك المغنية كرسيها لتمنح رقصة حبيسة جسدها المنتحب الخروج و التحرر وتذهب، حتى تعود للغناء مرة أخرى !!


يبدأ إيقاع التانغو واضحاً تتهجاه آلات البيانو و التشيللو و الكونترباص من جهة مع الكمان و الأوبوا والجيتار من جهة أخرى وتحت سقف من الإيقاعات النابضة يقترحه الدرامس و الكاخون، مع الراقصين الذين يلبسون خطواتهم بثقة والعزف الحي يملأهم نشوة حيث البيانو يستلم دوراً صغيراً في تحريض الراقصين يتبعه التشيللو ثم الكمان فالكونترباص إلى أن تدب الحياة أكثر في الراقصين و الجمهور، و عندما يتأكد الراقصون بأن الجمهور وصل الى ذروته يخرجون ماعدا اثنان يظلان على الخشبة كي يقتسمان الإيقاع اللاتيني معاً على سرعة Andante وهي سرعة بطيئة سماها الإيطاليون بهذا الاسم كي يميزوها عن باقي السرعات.


تتوالى الرقصات والمقطوعات الموسيقية التي تؤكد لنا بأننا لو لم نحضر هذا الحفل لتلبسنا الندم. هنا نرى الراقصين وهم يقدمون بذكاء تحت قيادة مصمم الرقصات المبدع الشاب (أنتونيو ناخارو) و موسيقى (أستور بياتسولا) الإرجنتيني الذي أعتبره شخصياً أفضل من كتب موسيقى التانغو على هذا الكوكب، الى جانب موسيقى المؤلف والعازف وهو أحد أعضاء فرقة نيوفو تانغو إنسامبيل (فرناندو إيجوسكو) و الذي اختاره بياتسولا مع عازف آخر للمشاركة في مهرجان من أهم المهرجانات في مسرح بوينس آيرس، هذا المزيج بين موسيقى الفلامنكو و رقصات التانغو اللاتيني وموسيقى التانغو مع رقصات الفلامنكو المليئة بالتاب العنيف، فليس مألوفاً أن ترى راقص تانغو بحذاء فلامنكو أو كستنيات إسبانية، وليس هنا فقط يكمن المزيج بين الفنين، بل اللعب على الألم الذي يسكن الراقصين الغجر و القادمين من أمريكا اللاتينية، فالألم دائماً يجمع الحضارات (حتى في الرقص)!!

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page