top of page
  • محمد حداد

كوريجليانو والكمان / الألم



بقلم: محمد حداد


يحتفل بـ(جون كوريجليانو) دوليا كواحد من المؤلفين البارزين بين أبناء جيله. لكن في اعتقادي بأن هذا لا يكفي.. فمبدع كهذا متميز في الموسيقى الاوركسترالية، موسيقى الحجرة، الأوبرا، وموسيقى الأفلام يستحق أن تبلور أعماله بشكل أكبر، فالإعلام الغربي جميعه في رأيي مقصر، باستثناء المؤسسات الخاصة التي تدعم حقا الفنانين الذين يقدمون شيئاً أرقى من أن يسمى فناً، (فما تبثه الفضائيات أيضاً يسمى فناً!!) لكن لا تتصورون سعادتي قبل حوالي 3 أشهر عندما كنت أشاهد قناتي المفضلة و الوحيدة Mezzo التي لا أفارقها طوال اليوم فقد عرضت هذه القناة (وهي متخصصة في الموسيقى الكلاسيكية والجاز وموسيقى الشعوب) عملاً للبيانو في منتهى الغرابة والجمال.. لم انتبه لاسم المؤلف في البداية لكن عند نهاية العمل شاهدت اسم المؤلف فوجدت أنه جون كوريجليانو (حقاً انه مبدع!!).


فقد أنهى (جون كوريجليانو) في 1997 مدونة الفيلم الذي كان يعد له وهو فيلم "الكمان الأحمر" الذي أخرجه المخرج الكندي فرانكويس جيرارد. فبالإصدار رقم (63010 SK) الذي اهترئ لكثرة استماعي له.. قدمت شركة "سوني كلاسيكال" لموسيقى الأفلام عازف الكمان المتميز جوشوا بيل والأوركسترا الفلهارموني بقيادة إسا بيكا سالونين موسيقى هذا الفيلم. وفى 25 نوفمبر عام 1997 قدم روبرت سبانو مع سان فرانسيسكو سيمفوني أمسية موسيقية مختلفة حيث قاموا بعزف "الكمان الأحمر" على شكل (تشاكون) لآلة الكمان والأوركسترا مع فنان سوني كلاسيكال المبدع جوشوا بيل والذي سنتكلم عنه لاحقاً. وفى ديسمبر قدم أوركسترا بوسطن (سيجى أوزاوا) مع (بيل) طبعا نفس العمل في القاعة السيمفونية في بوسطن، ثم قاعة كارنيجي في نيويورك، وأخيرا في مركز نيوجيرسي للفنون.

تشاكون "الكمان الأحمر" عبارة عن عمل موسيقي مستقل تكون فيه حوارية ليست معقدة بين الكمان والاوركسترا لكن عميقة ومكثفة مستمدة من اللحن الموسيقي الرئيسي في مدونة موسيقى الفيلم الذي يحمل نفس الاسم.


لقد تعودت أن اكتب انطباعاتي الصغيرة في الموسيقى والمؤلفين الموسيقيين كي نشترك في دفء السرد، لكن عندما استمعت إلى موسيقى فيلم (الكمان الأحمر) وشاهدت الفيلم بعد ذلك (مع أناس يتقمصون الأم والزوجة في محبتهم!!) لم أتمالك نفسي في أن اكتب ولو بعض ما صادفني في هذا الفيلم الرائع حقا، فاسمحوا لي أن أتجرأ بالبوح القليل عن الصورة حيث سيفيدني هذا البوح في الكلام عن الصوت وكيف استطاع المؤلف الموسيقي والعازف معاً الامتزاج مع اللحظة المرئية وتحويلها إلى نغم ودلالات صوتية.


الفيلم كما قيل انه من بطولة (صموئيل ل. جاكسون) و (جريتا سكاتشي)، لكن لي وجهة نظر مختلفة واعتقد أن الكثير يوافقني الرأي في أن الفيلم من بطولة الكمان الأحمر !! فهو البطل في كل مشاهد الفيلم، يصاحبه حضور الممثلين.

تدور أحداث الفيلم حول الـ300 سنة من تاريخ هذا الكمان الذي صنعه الصانع الإيطالي (نيكولو بوسوتي) ولمسات الناس الذين عايشوا هذه الآلة طوال الثلاثة قرون، فأنت ترى الفيلم من زوايا تتغير كل مرة (المزاد الذي بيع فيه الكمان الأحمر يدخل كل مرة من زاوية مختلفة، مشهد العرافة وهى تقرأ مستقبل (المرأة/الكمان)، مشهد الصانع الإيطالي قبل وبعد وفاة زوجته وكيف صنع (الكمان/المرأة).


في فيلم مثل هذا ترى الشفافية في العلاقة بين الكمان والمرأة وكيف استطاع صانع الكمان أن يترجم هذا الحب بصدق في عمله بعد موت زوجته، فقد البس الكمان شخصية المرأة التي أحبها في جميع حالاتها وهذا ما نراه مرحلة بعد الأخرى، والأجمل هو المزيج الموسيقي الذي اجتاز كل هذه السنين و أعطانا نغمات صادقة تعكس الفترة الزمنية والمشاعر التي مر بها كل عازف استطاع العزف على هذه الآلة... ربما أكون قد أسهبت كثيراً في كلامي عن المؤلف، لندخل في رحلة الكمان الأحمر الذي عبر البحار رغماً عنه وهو يجمع بين حناياه لمسات كل العازفين الذي احترقوا من لهيب المشاعر المتأججة في خلاياهم بمجرد لمس هذه الآلة العجيبة، سنبدأ بأول محطة فالرحلة طويلة والعازفون كثر...


(في كريمونا):

نرى الصانع الإيطالي كيف يكون صارما مع مساعديه كي لا يتهاونوا في عملهم. بهذه المشاهد التي تراه فيها (على قلق) تشعر بأنه في مختبر للولادة وهو على وشك استقبال مولود جديد ومميز وترى في حواره مع زوجته الحبلى وهو ممسك بكمانه الذي صنعه للمولود المحتمل حيث يقول لها: (ابننا سيجلب الموسيقى للعالم والفخر لنا) فهنا تعرف أن (الكمان/الحياة) هو كل ما يملك. وفي مشهد آخر للأم وهي واضعة يدها على بطنها وكأنها تداعب جنينها النائم نسمعها تترنم بأنغام الثيمة الرئيسية (اللحن الرئيسي) للفيلم فنسمع من خلال نعومة صوتها الذي يمتزج بدخول آلة الكمان مشتركة مع صوتها في تهويدة ناعمة للطفل الغائب.



(في فيينا):


نرى الأطفال اليتامى في الملجأ يعزفون على (الكمان/الحنان) واحدا تلو الآخر وكأنهم استشفوا الحنان الذي يسكن (الأنثى/الأم) التي حرموا منها، ثم نرى تعلق الطفل اليتيم كاسبار بـ(الكمان/الأم) حيث كان ينام معه وعندما أخذه منه أستاذه في إحدى الليالي أصيب بالمرض ولم يشف إلا عندما أعادوه إليه، ونلاحظ في عزف كاسبار الطفل المريض بالقلب الذي وضع في تجربة في منتهى الخطورة، وهي خروجه من الملجأ و إجباره على تعلم لغة غير لغته الأم وأخيراً أن يعزف أمام الأمير الذي يبحث عن طفل يرافقه في رحلته!! كل هذا الضغط النفسي طبعاً يؤثر على عزف الطفل والذي نراه واضحاً في هذه المنطقة من الفيلم. طبعا ذروة هذه الانفعالات هي زيارة كاسبار و أستاذه للأمير حيث رأى الولد في عيني الأمير رغبته في أن يأخذ الكمان منه فمات في الحال ودفن ومعه (الكمان/الأم).


تتضح في كل هذه المواقف (المرأة/الأم) التي حرم منها الولد اليتيم والتي حرمت هي الأخرى من جنينها ومن حياتها في نفس الوقت.




(في اوكسفورد):

oxford

باستيلاء الغجر على القبر واخذ الكمان.. نرى تنقل (الكمان\المرأة) بين العازفين والراقصين من الرجال والأولاد واحدا تلو الآخر على نغمات غجرية ثائرة تعكس شراسة وحرية، بعد ذلك عندما يتعب كل العازفين تتناولها فتاة غجرية تقوم بتنظيفها ومسح كل آلامها، حيث نسمع لحنا هادئا أشبه بالأنين الذي يقوم بإغواء العازف الإنجليزي العاشق، الذي يأخذ منهم (الكمان\العاشقة) حيث يرتبط إبداع هذا العازف بتعلقه بهذه الآلة الملهمة التي تثير مشاعره وتستفز رجولته فنراه يلتهب ويلهب الجمهور بمجرد أن يمسك هذا الكمان الذي يحمل دماء امرأة في منتهى العشق، والعزف هنا يعكس الثورة الرجولية التي تتملك العازف فالنغمات القوية تمثل الرغبة العارمة التي تتصاعد وتتسارع لتبلغ الذروة الموسيقية أيضاً. عند عودة حبيبة العازف تراه يخونها مع امرأة أخرى وهو يعزف على (الكمان/الأنثى) فتشتعل غيرتها ولا تحمل حبيبها الذنب ولا المرأة الأخرى بل الكمان، حيث توجه طلقة مسدسها على (الكمان/الأنثى) قبل رحيلها.




(في شانغهاى):

shanghai

بعد سرقة الخادم للكمان ونقله إلى الصين نراه معلقا في محل صغير للأدوات المستعملة لكن بمجرد أن يكتشف البائع الفص النفيس على (الكمان/المرأة) - حيث لا تكتمل أنوثتها إلا بالحلي- نرى هذا المحل قد أصبح كبيرا وفخما بفضلها، ثم نرى المناضلة الثورية، التي أحبت هذه الآلة التي اشترتها لها أمها منذ زمن ما قبل الثورة الحمراء، وكيف أخفتها وناضلت كي تحافظ عليها، ونسمعها وهي تعزف عليها بخوف و تردد نغمات مرتبكة، وأخيرا تأخذها إلى مدرس الموسيقى (التقدمي) كي يحتفظ بها عنده، ونرى المظاهرات التي تؤيد القائد الشيوعي، ثم ينتحر المدرس بشرف، تاركا(الكمان/الرمز) مع جميع الآلات للدولة!!



(في مونتريال):


تنتقل جميع الآلات إلى كندا لبيعها في مزاد علني، فيظهر موريتز المتخصص باحثا عن (الكمان/الأسطورة)، وبمجرد أن يكتشفه يبدأ بالبحث عن تاريخه الأصلي، ويحاول إخفاء الخبر عن البقية كي يظفر به. إلى أن يستطيع سرقته بالتعاون مع أحد الخبراء..... طبعا بين كل هذه المشاهد نرى أناسا يأتون للمزاد من كل مكان للحصول على (الكمان/الثروة).

راهب يتصل من الملجأ الذي كان يسكنه كاسبار ليشترك في المزاد، عازف كمان نمساوي من نفس بلد الأستاذ الذي درس كاسبار، مبعوث شركة إنجليزي يريد الحصول على تحفة العازف الإنجليزي ابن بلده، ابن المناضلة الصينية وزوجته، موريتز المتخصص، وكثيرون غيرهم. ينقطع موريتز عن زوجته ولا يتصل بها طوال إقامته في الفندق، فالكمان يأخذه عن كل شيء، وبعد أن ينجح في سرقة (الكمان/التاريخ) يتصل بابنته ليخبرها بأنه سيجلب معه هدية رائعة، وبهذه الجملة تبدأ رحلة جديدة للكمان الأحمر لا نعرف أين تنتهي!!


طبعاً العازف جوشوا بيل كان مبدعاً طوال أحداث هذا الفيلم، فقد نقلنا بأنامله المتوهجة بين جميع الشعوب باختلاف مشاعرها من اللحن الهادئ الذي تترنم به زوجة الصانع لابنها وهي حبلى، مروراً بالغجر المتجولون حيث النغمات الساحرة ذات الإيقاعات المبتكرة، ثم إلى الصين وهذا اللحن الخافت الخائف الذي لا يريد أن يسمعه أحد!!


حقا كوريجليانو كان في حاجة إلى عازف مثل جوشوا بيل كي يترجم كل هذه المشاعر المتدفقة بمنتهى الشفافية، فأنت تسمع أنفاس جوشوا بيل في كل معزوفة يؤديها. فالمؤلف الموسيقى حين يصادف عازفا بمثل هذه البراعة يشعر بأن الطريق أمامه شاسعة فلا يتردد في أي نغمة تصادفه، فالعازف رحب إلى أقصى حد…

شاهدوا الفيلم.. لن تندموا. و لا تنسوا الموسيقى!!

RSS Feed
البحث بالتصنيف
كتبت أيضاً..
ما ذهب في الذاكرة..
bottom of page