خالد الشيخ والشعرات البيض

بقلم : محمد حداد
بدخول صوت آلة الجيتار الإلكتروني الذي يوحي بأن صوت مغني الجاز (إن جاز التعبير) سيدخل بعد قليل ليسرد الحب بلونه الأزرق.. لكن تفاجئنا الوتريات التي تعلن أن توزيع الأغنية سيكون عربياً و قريبا منا جدا.. لكن إلى أي حد؟
ينطلق صوت (خالد الشيخ) جالبا معه التاريخ والموروث الخليجي جميعه لكن برؤيته المراوغة حيث يسرد موقف (يارا) من الشعرات البيض التي سكنت رأس الشاعر الراحل (غازي القصيبي)، ونلحظ الشقاوة في صوت يارا متمثلاً في (فاطمة) وهي تقول: (لا أرضى لك الكبرا) في مقام الراست وكأنها تدعونا إلى بن فارس و بن وليد، ومثلها يختم الكورال الجملة الأخيرة في الفكرة الافتتاحية للأغنية..
في اللحن الأساسي والفكرة الرئيسية التي توضح وجهة نظر يارا الشقية والبريئة في الشعرات البيض كان خالد موفقاً في اختيار مقام العجم (السلم الكبير) ليبدأ مشوار هذه الأغنية الممتعة، وهو مقام له طابع المرح ويحوي مساحة كبيرة من النغمات البراقة التي تمكن الملحن من اللعب عليها بخفة كي يترجمها المستمع إلى فكرة المداعبة..
مع أن هذا هو التعامل الأول لخالد الشيخ مع الموزع المبدع سيروس الذي حقا أثبت (وهو ليس مجبراً) بأنه يستطيع التمازج مع معطيات خالد (المغامر) اللحنية و يتمثل هذا في حفاظ سيروس على روح فن (الصوت) الذي رسم عليه القالب الأساسي للأغنية طبعا بالتعاون مع لمسات خالد التي يضفيها على النص و اللحن معاً.
فكلمة (سيدي) مثلاً التي تضاف للجملة التي يكررها الكورال بعد المغني المنفرد في فن الصوت جاءت هنا ولكن بطعم مختلف حيث القصيدة هنا كتبت بالفصحى (مع أن في التراث كثير من أغاني الصوت جاءت بالفصيح) إلا أن خالد أوجد مكاناً آمنا لهذه الكلمة (الدارجة) في النص الفصيح.
إذا تمعنا في التوزيع الموسيقي سنرى أن سيروس أيضا يتجه مع خالد إلى نفس المنطقة حيث ترجم (ولكن بطريقته) وجهة نظر يارا الطفلة في المنطقة الأولى من الأغنية إلى وتريات نضرة تتجول في أنحاء الأغنية برشاقة الطفلة وهي تتنقل في أرجاء البيت وهذا التعامل الدقيق للوتريات مع اللحن الشقي الذي اقترحه خالد في مقام العجم يدخل المستمع (دون أن يشعر) في حالة من البهجة الغير مبررة بالنسبة للكثيرين.
بدون أي تحويلات نغمية يدخل الفاصل الموسيقي الأول، وهو في مقام النهاوند (السلم الصغير) وطبيعة هذا المقام مزدوجة حيث أنها تساعد الملحن على صياغة أكثر الألحان رومانسية وهو موطن ملائم للجمل اللحنية الملتهبة، لكن في نفس الوقت هذا المقام قادر على صياغة الحزن والألم أيضاً، فهنا نشعر وكأن الكاميرا توجهت فجأة إلى ملامح الأب وهو يستجمع أفكاره كي يبدأ السرد ليارا عن تاريخ هذه الشعرات البيض!!
نرى في الفقرة الغنائية الثانية والتي يتكلم فيها الأب (خالد/غازي) عن معاناته في هذه الحياة حيث تصل براعة خالد ذروتها (بالنسبة لي على الأقل) في التعامل مع الكلمة الواحدة أو الجملة القصيرة و كيف يبذل كل ما تيسر له من نغمات ممكن أن تسعف غايته ويتمثل كل هذا في جملة ((من يا ترى؟)) حيث يتقاذف خالد هذه الجملة مع الكورال خمس مرات فيها أربع ألحان مختلفة و واحد متكرر!! هذه الطريقة في التعامل مع الكلمة وخصوصا أن الجملة تتكلم عن الأيام التي توسعه حرباً بدلاً من ضرباً فهنا خالد يرهقنا كما أرهقت الأيام (غازي) من كثرة الأسئلة (من يا ترى؟) إلى أن يستلم هو في النهاية ليختم جملته في مقام العجم مرة أخرى تمهيدا للروح التي تغنت فيها (فاطمة/يارا) لكن هنا الكورال يستلم هذه المهمة.
نعود إلى ذكاء الموزع و الملحن في الحفاظ على روح فن الصوت مع أن العمل مشحون بالآلات الغربية و الالكترونية، ففي فن الصوت الذي عادة يغنى بشعر عامي أو شعبي، توجد لزمة موسيقية تهيئ المستمع إلى أن القصيدة الآن ستتحول إلى شعر فصيح ، وهذه النقلة تسمى “توشيحة”، سيروس كان حريصاً على أن يعطي المستمع هذه اللزمة القصيرة التي توحي بالتوشيحة..
يدخل المقطع الغنائي الأخير حيث نرى أن (فاطمة/يارا) هنا تدخل بجملة أكثر نضوجا مما سبق مما أدى إلى أنها تركت مقام العجم و اتجهت إلى المقام الأعمق وهو النهاوند، وبالتأكيد الكلام الذي تتغنى به في هذا المقطع (و هو أشبه بالحكمة) الذي صاغه الشاعر غازي القصيبي لا يليق إلا بمقام كمقام النهاوند.
المميز في هذه المنطقة من الأغنية هو التشابه في الجمل المكتوبة للوتريات و الجمل المكتوبة للكورال، فيأخذنا هذا الجو إلى السؤال: من اقترح الجملة الموسيقية أولاً (خالد أم سيروس؟) والأجمل أن الجواب ليس مهماً بالنسبة لي مادام التعاون بين هذين الفنانين على قصيدة بهذا الجمال سيجعلنا نستمع إلى كل هذا الإبداع….. (من ياترى) يجرؤ على التحليل و النقد فأنا هنا لم أكتب كي أنقد بل كي اسرد إعجابي بالعمل مدعماً بالأدلة.